وداعا أيوب.. الصحافي الذي رحل بكبرياء

في لحظات الفراق، تتعثر الكلمات، وتضيق العبارات عن وصف ألم الفقدان، خاصة حين نفقد شخصا نادرا كالصديق والزميل، أيوب الريمي، الذي غادر دنيانا مؤخرا في لندن، ووُري جثمانه الثرى يوم أمس في مدينة القنيطرة، تلك المدينة التي حملها في قلبه حتى اللحظة الأخيرة.
رحيل أيوب ليس مجرد خسارة لشخص، بل هو غياب لنموذج نادر من الصحافيين الذين جمعوا بين الأخلاق الرفيعة والشغف العميق بالمهنة. وبقدر ما حملته جنازته من حزن وألم، كنت أرى فيها شخصيا ذلك العزاء في الأثر العميق الذي تركه أيوب في قلوب محبيه وزملائه، وكأنه لم يرحل، بل انتقلت روحه إلى كل من آمن بمبادئه وسار على دربه.
لم يكن أيوب مجرد صحافي يمارس المهنة، بل كان رمزا لنقاء الصحافة وصدقها، وكان رحيله شهادة أخرى على أن الصحافة الحقيقية لا تموت، بل تعيش فيمن يواصلون حمل شعلتها.
لقد كان أيوب مثالا للصحافي المخلص، المتجرد من الأهواء، الساعي إلى الحقيقة، وكأن وفاء الناس له في جنازته وعلى منصات التواصل الاجتماعي هو تأكيد آخر على أن القيم التي جسدها ستظل حية، وأن رسالته المهنية لم تنته، بل ستبقى حافزا لمن يؤمنون بأن الصحافة ليست مجرد عمل، بل مسؤولية ورسالة أسمى…
في مثل هذه اللحظات، يعترينا شعور بالحزن والأسى، ليس فقط لفقدان من نحب، ولكن أيضا لإدراكنا القاسي بأننا لا نمنح بعضنا البعض ما يكفي من الاهتمام والتقدير حين نكون على قيد الحياة. نلهث وراء مشاغل الحياة، ننشغل بمتطلباتها، ونؤجل كلمات المحبة والتقدير إلى أجل غير مسمى، وكأننا نظن أن العمر طويل بما يكفي لنقولها لاحقا.
لكن الرحيل يأتي بلا استئذان، ليجعلنا نندم على لحظات كان يمكن أن تكون أكثر دفئا، على لقاءات كان يمكن أن تدوم أطول، وعلى كلمات كان يمكن أن تقال قبل فوات الأوان. إنها حقيقة موجعة، لكنها درس لا بد أن نتعلمه، علّنا نعطي الآخرين من الحب ما يستحقونه في حياتهم، قبل أن يغيّبهم الموت عن عالمنا.
كانت جنازته مهيبة، حيث اجتمع عدد كبير من زملائه الصحافيين، وأصدقائه، وأفراد عائلته في وداع مؤثر يليق برجل وهب حياته للصحافة. كان المشهد تجسيدا حقيقيًا لمكانته في قلوب من عرفوه، حيث امتزجت الدموع بالدعوات، وشهد الجميع على طيب خلقه ونقاء سريرته.
لم يكن الحزن محصورا في دائرة المقربين منه فحسب، بل امتد ليشمل فضاءات أوسع، إذ اجتاحت موجة حب عارمة منصات التواصل الاجتماعي فور إعلان خبر وفاته. تدافعت المنشورات والتغريدات التي تروي سيرته، وتتذكر مواقفه، وتشيد بمهنيته العالية وإنسانيته العميقة. حتى من لم يلتق به شخصيا وجد في ذكراه ما يستحق التقدير، فكان وداعه كما حياته، نقيا، مؤثرا، وباقيا في الوجدان.
ارتبط أيوب بزميلة دراسته، سارة آيت خرصة، وبعد انتقالها إلى لندن لخوض تجربة مهنية جديدة، اتخذ أيوب قراره النبيل، متخليًا عن فرص مهنية عديدة كانت متاحة له في المغرب، ليلحق بها في عاصمة الضباب. ورغم تنوع تجاربه المهنية في لندن، وتقديمه لبودكاست استضاف فيه شخصيات بارزة، وأدار نقاشات عميقة، ظل قلب أيوب متعلقا بالمغرب، يكتب عنه، يتابع أخباره، يناقش تفاصيله مع أصدقائه كما لو أنه لم يغادره يوما.
وراء هذا الرجل العظيم، كانت تقف امرأة عظيمة، سارة، التي لم تكتف بأن تكون رفيقة دربه، بل كانت سنده في أصعب لحظاته، وصوته حينما اشتد عليه المرض. وحتى في عز جنازة رفيق دربها، حرصت على أن تنقل لنا مدى إعجاب أيوب وتقديره لتجربة “صوت المغرب”، وكأنها تريد أن تضمن أن صوته سيبقى معنا، ولو عبر ذكرياته وكلماته التي لم يفقد بريقها حتى في أيامه الأخيرة.
كانت قضايا الوطن تسكنه، وكانت فلسطين وغزة آخر القضايا التي شغلت باله، يتحدث عنها بحماس، يناقش مستجداتها، يبحث عن أصدقائه الفلسطينيين ليشبع فضوله واهتمامه بما يجري هناك، كأنها قضية شخصية تمس قلبه مباشرة.
حين أدرك أن المرض قد استعصى على العلاج، لم ينهار، لم يُظهر ضعفا أو يأسا، بل كان رجلا في مواجهة الألم، زائرا لوالدته في أواخر عام 2024، مودعا دون أن يُفصح، محتفظا بألمه لنفسه، ومحاولا أن يترك خلفه ذكرى جميلة وليس حزنا ثقيلا. لم يكن مرضه مجرد معركة طبية، بل كان اختبار لصبر رجل حمل اسم “أيوب”، فحمل معه صبره.
أيوب، ذلك الشاب الذي لم تكن الصحافة بالنسبة له مجرد مهنة، بل كانت عقيدة يعيش من أجلها، يذوب فيها، ويستنشقها مع كل صباح، عرفته منذ قرابة ثمانية عشر عاما، حينما كان طالبا في المعهد العالي للإعلام والاتصال. كان شابا وديعا، دمث الخلق، هادئا في حضوره، لكنه يحمل في داخله نيران الشغف والحكمة المبكرة. كان الاستماع إليه، على صغر سنّه وحداثة عهده بالمهنة، أشبه بقراءة مقالة صحفية دقيقة، محكمة الصياغة، واضحة الفكرة، مفعمة بالروح.
كما كانت لأيوب علاقة خاصة بالزميلة حنان بكور، منذ أيام اشتغاله إلى جانبنا في جريدة “أخبار اليوم”، حيث جمعتهما صداقة مهنية قوامها الاحترام المتبادل والمزاح الأخوي الذي لم ينقطع حتى في أيامه الأخيرة. ظل يمازحها حتى وهو في قلب معركته مع المرض، ورغم أنني علمت من خلالها بمرضه الذي لم يصرّح قط بتفاصيله، آثرت ألا أكلمه حول الأمر، تقديرا مني لاحترامه الكبير لمسألة الخصوصية، وهو ما أكدته رفيقة دربه، سارة، حين قالت، ونحن على بعد لحظات من تشييعه إلى مثواه الأخير: “لقد كان يحمل تقديرا خاصًا للخصوصية.”
قبل خروجها الفعلي إلى الوجود، كانت لأيوب علاقة خاصة بصحيفة “صوت المغرب”، حيث تحمس للفكرة منذ بدايتها، ولم يتردّد في إبداء استعداده للمساهمة. ورغم أن المرض أعاقه عن الشروع في ذلك، لم يكن يعلّق الأمر على مشجب مرضه، بل كان يعتذر عن “تقصيره” كأنما يحمل مسؤولية الصحافة على كتفيه حتى وهو يصارع الألم.
عملنا سويا في جريدة “أخبار اليوم”، حيث برز كصحافي شاب يملؤه الطموح والدقة المهنية. لم يكن مجرد كاتب تقليدي، بل كان يغوص في التفاصيل، يبحث، ويحلل، ويربط بين الأحداث بخيط منطق لا يعرف التراخي. كان يتحرك بشغف، ينهمك في عمله كمن ينسج قصة حياته من خلال كل مقال، كل تقرير، وكل تحقيق صحفي يضع عليه بصمته.
حتى وهو في قلب معركته مع المرض، لم تهجره الصحافة لحظة. كان يحمل معه الأخبار إلى غرف العمليات، يسأل عنها فور استعادته للوعي من التخدير، كأنها شريان الحياة الذي يمنحه سببا للاستمرار. كان شغفه أكبر من المرض، وكانت إرادته تتحدى الزمن، حتى حين أدرك أن أيامه في الدنيا باتت معدودة.
حتى في أيامه الأخيرة، ظل متابعا وفيا للصحافة، يحدّث صديقه الخدوم والوفي، زكرياء كارتي عن المستجدات، ويناقش زملاءه عن آخر البرامج والمقالات، يعبّر عن إعجابه بحلقات “ضفاف الفنجان”، ويحلل حوارات الضيوف وكأنها جزء من عالمه الذي لم يغادره قط.
في خضم الألم، ظل ذهنه حاضرا، متوقدا، يتفاعل مع ما يحدث حوله، كأن الحياة لا تزال تفتح أبوابها له، ولو كان الجسد يخذله.
رحمك الله يا أيوب، وأسكنك فسيح جنّاته، ستظل ذكراك خالدة في قلوبنا، وستبقى مثالا للصحافي النبيل، الذي عاش من أجل الحقيقة، ورحل عنها بكبرياء الصادقين.