story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

وثيقة الرميد

ص ص

لا يمكنني بتاتا، كواحد من أفراد الفريق الذي استضاف وزير الدولة والقيادي السابق في حزب العدالة والتنمية، المصطفى الرميد، في حوار طويل قمنا بنشره مساء الجمعة الماضي، إلا أن أعود إلى تلك المقابلة الخاصة والاستثنائية، لا للتعليق عليها أو تحليلها، بل أولا للتعبير عن سعادتي بما أنتجته من مفعول في حقلي السياسة والإعلام.
نحن سعداء جدا بتقديم دليل عملي وواضح، على أن الصحافة مازالت ضرورية، ووظيفتها أساسية ومساهمتها حيوية في تنشيط الدورة الدموية في جسم المجتمع، وإحياء النقاش وتأطيره وتغذيته بالمعطيات والآراء الضرورية، تماما كما هي بعض المكونات المعدنية والفيتامينات ضرورية لجعل الدم الذي يسري في العروق صحيا ومحققا للحياة.
أنا سعيد جدا، سعادة شخصية أيضا، لأن مادة إعلامية نُشرت في عز سطوة الانشغالات الثانوية والترفيهية، كي لا أقول التافهة لأن هذه الكلمة غير موضوعية وغير دقيقة، وتحوّلت رغم ذلك إلى موضوع يشغل الناس ويستأثر باهتمامهم.
وتصبح السعادة غامرة حين نعلم أن الأمر يتعلّق بواحد من القوالب الجديدة لاستهلاك المحتوى الإعلامي، أي البودكاست، والذي اتّسم اقتحامه للمجال العام المغربي بكثير من التردد. وظلّ هذا “الجنس” يقدّم كمحتوى دخيل على الصحافة، يعدّه “المؤثرون” ومنتجو المحتوى الجدد… لتقدّم هذه الحلقة الدليل على إمكانية “تلقيم” الصحافة وتطوير ممارستها لتلتقي بالأنماط الجديدة في إنتاج واستهلاك المحتوى الإعلامي، فتستعيد جزءا من تأثيرها الذي كادت تخسره بالهدف الذهبي في مواجهة الأنماط الإعلامية الجديدة.
لقد كان يفترض إلى غاية اليوم الذي سبق موعد نشر المقابلة، في نسختيها المرئية والمكتوبة، أن ينشر هذا الحوار في أربع حلقات متسلسلة، لكل منهما موضوع وعنوان مستقل.
وكان ضيفنا المصطفى الرميد قد لاحظ كيف أننا بين استراحة وأخرى نقوم بالترحيب به من جديد على سبيل التحضير لبداية حلقة مستقلة. لكننا في النهاية قررنا أننا أمام محتوى قوي واستثنائي، يمكننا أن نعوّل عليه في كسر جميع القواعد التقنية المتواضع عليها في نشر المحتوى الإعلامي الرقمي. وأن قرابة ثلاث ساعات ونصف من النقاش السياسي، ستتمكن من انتزاع المشاهدات في عزّ سيطرة المحتوى القصير والسريع ونمط “السندويتش” الذي بات سائدا.
وأنا سعيد أيضا لكون مضمون المحتوى الذي حقق انتشارا وتفاعلا كبيرين وغير مسبوقين، يتعلّق بالسياسة والسياسيين. فلا الصحافة ماتت وانتهت، ولا السياسة انسحبت من مسرح الحياة.
فبينما كان تكنوقراط تدبير الشأن العام يخوضون جلساتهم المدعومة بكل أنواع التزويق والتنميق والإخراج والبت، موظفين كل ما يحوزونه من إمكانيات مالية وتقنية ضخمة… كانت جلسة لم تكلّف أكثر من مقعدين وثلاث كاميرات واكسسوارات بسيطة، مع براد شاي وقنينتي مياه معدنية، يكتسح الشبكة العنكبوتية ويتحوّل إلى حديث النخبة والأسر والأفراد، بكل الحمولة السياسية الصرفة التي حملها اللقاء، وخلوّه من أي صنف فرجوي آخر غير “الفرجة السياسية” كما سمّاها أحد الأصدقاء.
السياسة لم تمت إلا في بعض القلوب المريضة. والانخراط والمشاركة يحصلان من جانب الشرائح الاجتماعية المختلفة حين يخرج إليها الفاعل السياسي بخطاب سياسي، له مضمون وينطوي على رسائل، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه.
ليس صحيحا أن المغاربة هجروا السياسة وانسحبوا منها وتركوها للتجار والشنّاقة والمستثمرين في سوقها الذي يسوده الكساد. بل هناك حاجة وطلب حقيقي على العروض السياسية، سواء منها الإصلاحية أو التبريرية أو الرجعية حتى.
مقابلتنا مع المصطفى الرميد أبانت حجم التقصير الذي يرتكبه السياسيون والسياسيات، بإحجامهم عن تغذية النقاش العمومي بالخطاب السياسي الذي يتطرّق للأساسيات.
المقابلة حجة على السياسيين الممارسين ونظرائهم المعتزلين، لأن التطوّر لا يتحقق بدون تعبئة وانخراط مجتمعيين، وهذا لا يتحقق بدون نقاش سياسي وتداول وصراع بين الأفكار والطروحات.
السياسة بدون نقاش واشتباك، بمعناه الإيجابي والسلمي، تصبح سخرة في محراب السلطة وطلبا على ريعها، وبالتالي يصبح السياسيون كائنات طفيلية تتغذى على دماء الجسم المجتمعي عوض أن تغذيه وتحفّز دورته.
سوف لن أقترب من مضمون المقابلة، لأنني كنت طرفا فيها، وشملني مديح أصدقائي وقرائي الذين شاهدوها، مثلما شملتني انتقاداتهم ومؤاخذاتهم. كما أتحمّل بالتالي مسؤوليتي، تضامنيا مع ضيفي، عنها، خاصة أنه فاعل سياسي له خصوم وأصدقاء، وليس مجرد مفكّر أو منظّر يمكن أن نجادله دون الوقوع في أي اصطفاف.
سأقول فقط ما قاله كثير من الأصدقاء ممن أثق في خبرتهم وثقافتهم: إن الأمر يتعلّق بوثيقة ستدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وستصبح مرجعا للأكاديميين والدارسين والمحللين والمراقبين. حتى أن أحد المعلّقين ذهب إلى وضع هذا الحوار في مرتبة الخطبة الشهيرة التي ألقاها القيادي الاتحادي الراحل، عبد الرحمان اليوسفي، في العاصمة البلجيكية بروكسيل، بعد التراجع عن “المنهجية الديمقراطية” وتعيين التكنوقراطي إدريس جطو وزيرا أولا بدلا منه بعد انتخابات 2002.
انتهى الراحل عبد الرحمان اليوسفي في خطبته الشهيرة إلى أن تجربته على رأس حكومة التناوب آلت إلى الفشل في تحقيق الانتقال من التناوب التوافقي إلى التناوب الديمقراطي، وأغلق قوسها بالخروج عن المنهجية الديمقراطية.
فيما انتهي المصطفى الرميد إلى أننا نعيش في ظل النظام السياسي الذي نستحق، وقال إن الدولة العميقة نعمة من الله شرط تنقيتها من شوائب الفساد والاستبداد.
وفي مقبال اختلاف ت تلك، انتهى الرجلان معا إلى نقد الأداة الحزبية التي كانا ينتميان إليها، بشكل قاس ولاذع. وإذا كان تعبير اليوسفي تجسّد أساسا في البعد والاعتزال الصامت، فإن الرميد اليوم يقدّم نقده لإخوانه بصوت مسموع، عبر “صوت المغرب”.