story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

“وادي جهنم”.. تحقيق من قلب مخيمات احتجاز وتعذيب مغاربة في ميانمار

ص ص

*سلمى الشاط

قصص بدأت بأحلام وردية.. سفر وعمل والكثير من الأموال التي تكفل عيشا كريما بعيدا عن شبح البطالة الذي حول يافعين شباب إلى عاجزين وغرباء وسط وطنهم يبحثون عن فرص الخلاص التي عادة ما تقود اليائسين إلى طرق سيارة غير آمنة.

هذه الأمنيات تلقفها “تجار الأحلام” وحولوها إلى كوابيس تعيشها الآن عشرات الأسر التي تحول حلم هجرة أبنائها إلى مأساة إنسانية عنوانها الكبير الاتجار بالبشر.

شباب من مختلف الأعمار والمناطق وجدوا أنفسهم في قبضة عصابات مسلحة في شرق آسيا، تحتجز وتعذب وتطلب فديات من الأهالي الراغبة في تخليص أبنائها من جحيم دخلوه بنية العمل والأجر، ويصارعون الآن من أجل الخروج منه أحياء يرزقون.

الشهادات التي نقلها العائدون من الجحيم، وشهادات رفاقهم الذين انقطعت أخبارهم منذ أيام، يمتزج فيها الواقع بالخيال.. مجمعات تحرسها عصبات مسلحة تحترف النصب والاحتيال بأيادي شباب من مختلف الأصقاع، القاسم المشترك بينهم شيء من الخبرة في مجال “البيع والشراء”.

يجلسون ليل نهار أمام شاشات حواسيبهم “يصطادون” الفرائس التي يستهويها الاستثمار في عالم العملات المشفرة، تارة بالإقناع وأخرى بالإيقاع. يسلبونهم أموالهم ثم يذوبون مثل الملح في الماء.

مافيات تجمع في أيديها بين السلطة على مكان غير آمن والسوط، حولت شبابا وعائلاتهم إلى قضايا اجتماعية تحت المجهر، بعدما شطبوا سنوات من أعمارهم وأمسكوا بالرقاب والأعناق في أقبية “المعتقلات الأسرية” المظلمة، حيث التعذيب المجهز بأنواع الوسائل المبتكرة لصنع الألم وإيصاله إلى أبعد خلية في الجسد وأدق شعيرة فيه.. تحولت حياتهم إلى كابوس فيه حياة كالموت وموت كالحياة.

تتقاطع الشهادات في وصف مشاهد التعذيب في تلك الأقبية البعيدة وراء “وادي جهنم”… “معتقلون” يتعرضون للإذلال والتعامل اللاإنساني والحرمان من أدنى الحقوق الإنسانية والقانونية..

أكثر من ذلك، مات بعضهم، وفق شهادة إحدى العائدات، التي تحدثت عن مقتل محتجزين من جنسيات أخرى، تحت وطأة التعذيب، فيما فقد بعضهم الآخر واحدة أو أكثر من حواسهم وأجزاء من أعضاء أجسادهم، وخرج آخرون يعانون جسديا ونفسيا، ومازالت أعداد أخرى في عداد المفقودين.

تحولت الحياة اليومية لبعض الأسر إلى معاناة يومية، يبحثون عن معطيات ومعلومات في منطقة أشبه ما تكون بأدغال مكتظة بالمنعرجات والمسالك المستورة، وعلى الرغم من حرص العديد من المنظمات الدولية على الوصول إلى “خارطة طريق” مفصلة ترشد إلى داخل هذه “المعتقلات السرية” إلا أنها لا تزال لحد الآن خزانة مقفلة مفتاحها ضائع.

لم يعرف ضحايا هذه العصابات وعائلاتهم كيف يبدؤون، ولا كيف يحولون مجريات أحداث أليمة إلى كلمات معبرة.. فالأفكار والأحداث والصور الحية التي عاشوها تتزاحم في أذهانهم مثل كتل ثقيلة، لكنهم بدؤوا من حيث بدأت بدايات تجاربهم القاسية…

في فبراير الماضي، توصل حميد (اسم مستعار) بعرض عمل مغرٍ في مملكة تايلاند. كان عبارة عن وظيفة في مجال تداول العملات الرقمية مقابل راتب شهري يتراوح بين 10 آلاف و20 ألف درهم، علاوة على مكافآت وعمولة تصل إلى 15 في المائة، وسكن وأكل وتنقل مجانيّ.

لم يتردّد حميد، 27 سنة، في قبول العرض وشرع في توضيب حقيبته وتوديع أسرته الصغيرة في مراكش.

تولّت “الشركة التايلاندية” دفع جميع تكاليف السفر، وحجزت تذاكره من مراكش نحو إسطنبول ثم إلى ماليزيا، حيث أقام في فندق فخم بالعاصمة كوالالمبور لبضعة أيام في انتظار استصدار تأشيرة دخوله إلى تايلاند.

كان حميد حريصا على التواصل مع أسرته وإرسال صوره لهم طوال مدة الرحلة، التي رافقه فيها 7 مغاربة آخرين. وبمجرد الوصول إلى مطار “سوفارنابومي” الدولي بالعاصمة بانكوك ليلا، ستخرج المجموعة من بوابة كبار الشخصيات (VIP) رفقة شخص بزي رسمي، يوحي مظهره بكونه يعمل في المطار.

سيجد حميد في انتظاره سائقا كان من المفترض أن يُقله إلى وجهته النهائية، إلا أنه سيُطلب منه تغيير السيارة تلو الأخرى لمرات عديدة وعلى طول الطريق المؤدية إلى KK PARK. هناك، سيكتشف حميد أنه وقع بين أيدي عصابة للاتجار بالبشر.

وسطاء مغاربة يستدرجون “إخوتهم” نحو المسلخ

يتم استقطاب العشرات من المغاربة بشكل متواتر إلى مجمع “TAICHANG” المعروف باسم KK PARK أو “الكمباوند” -كما تسميه أغلب أسر الضحايا- لحساب شبكات إجرامية دولية منذ حوالي سنة.

تبدأ عملية الاستدراج بنشر عروض عمل في مجموعات فيسبوكية أو على تطبيق تلغرام، خاصة بالراغبين في الاشتغال بتايلاند في مجال المعلوميات، والتجارة الإلكترونية أو التداول. وفي حالات أخرى، يتم توظيف مواطن مغربي يتولى مهمة إقناع الشباب بوظيفة تدرّ عليهم أموالا طائلة، إسوةً بعدد من المؤثرين ممن ينعمون برغد العيش في تايلاند.

يقوم الوسطاء المغاربة بالاتصال بمعارفهم وأصدقائهم في المغرب عن بُعد لإقناعهم بالمجيء، كما أن منهم من يعمل بشكل شخصي ومباشر في دول مثل تركيا، ويقوم باصطياد الضحايا المستوفين للشروط المطلوبة: الإلمام باللغة الإنجليزية، وإتقان استعمال الحاسوب.

يقع مجمّع KK PARK في الحدود البرية بين تايلاند وميانمار (بورما سابقا) وتحديدا في ولاية “كارين” جنوب شرق ميانمار. يفصل بينه وبين الأراضي التايلندية، نهر “Moei” أو وادي جهنم، والذي يتم عبوره بقوارب صغيرة للوصول إليه. هو فضاء مغلق تحيط به أسوار عالية وسياجات حديدية شائكة وكاميرات مراقبة.

تضم ولاية كارين أو KAYINE بميانمار عدة مستودعات سرية ضخمة يشتغل فيها الآلاف من الأشخاص الذين تم استدراجهم بنفس الطريقة. تقع هذه الولاية تحت سيطرة متمردين وميليشيات عرقية تدعى “جيش التحرير الوطني لكارين”، يقاتلون الجيش البورمي النظامي من أجل استقلال منطقتهم منذ 1949.

تمكن متمردو كارين في بداية هذه السنة، من السيطرة على مدينة مياوادي، والقضاء على آخر مخفر بورمي بالولاية. وتعدّ هذه المدينة أحد الطرق الرئيسية لتهريب المهاجرين، ومرتعا لأنشطة الجريمة المنظمة للشركات الصينية، التي تعتمد عليها الميليشيات لتحصيل عائدات مالية كبيرة.

أما مجمّع KK PARK، فيتواجد في منطقة تدعى “المنطقة الضخمة” (Megalahpo)، على بعد أقل من ساعة من مدينة مياوادي، ويضم الآلاف من البشر من مختلف الأجناس: أفارقة، وهنود، وآسيويون، وروسيون، بالإضافة للعشرات من مواطنينا المغاربة، حوالي 150 مغربي ومغربية بحسب تقديرات أسر الضحايا، ولحد الآن لم تقدم السلطات المغربية أي رقم عن عدد المغاربة المحتجزين، وتحدث سفير المغرب في تايلاند عن 18 حالة تم التأكد منها، مرجحا أن يكون العدد أكبر.

لماذا ماليزيا؟

تفضل الشبكات الإجرامية الناشطة في الحدود بين تايلاند وميانمار استقدام ضحاياها من المغرب إلى تايلاند عبر ماليزيا، التي تُعفي المواطنين المغاربة من تأشيرة الدخول لـ 90 يوما. هذه الطريقة تمكنهم من تفادي إمكانية تتبع مسار الضحايا أو معرفة أعدادهم أو هويتهم أو إيداع ملفاتهم لدى سفارة تايلاند بالرباط، في حالة طلب التأشيرة.

كانت السفارة التايلندية بالمغرب قد أوضحت في بلاغ رسمي لها أن “العديد من الأفراد يتقدمون بطلبات للحصول على التأشيرات عن طيب خاطر، بدافع تحقيق مكاسب مالية من خلال المعلومات المضللة التي يتلقونها من شبكات الاتجار الدولية”. وأردفت أن هؤلاء قاموا في بعض الأحيان بتقديم معلومات كاذبة للسفارات متذرعين بالسياحة أو غيرها من الأغراض المشروعة كأسباب لسفرهم، و”ربما تلقى بعضهم مساعدة من هذه الشبكات الإجرامية في تقديم معلومات أو وثائق مزورة للسفارات”.

أحد المصادر أوضح لنا أن هذا المسار هو بمثابة تمويه وتضليل للسلطات المحلية مخافة معرفة الوجهة الحقيقية للضحايا، معتبرا أن هذه الجهات استفادت من الإقبال الكثيف للمغاربة على السفر إلى جنوب شرق آسيا كوجهة سفر صديقة للميزانية وتقدّم تسهيلات في “الفيزا”.

يكشف محدثنا أن العصابة هي من تتولى تجهيز ملف مدعم بوثائق مزيفة من بينها كشوفات حساب مزورة لمؤسسات بنكية مغربية، وتسلمه للضحايا في فندق مجاور للمصالح القنصلية التايلاندية بكوالالمبور. ولدرء الشكوك، يتقدّم الضحية بنفسه لطلب “الفيزا السياحية” لدى القنصلية. هذه الإجراءات تستغرق من يومين إلى ثلاثة أيام في الغالب، وهي المدة التي يقضيها الضحايا داخل الفنادق المصنفة بماليزيا.

وفي هذا الصدد، كانت الحكومة التايلندية قد أصدرت تعليمات لسفاراتها في أفريقيا بتطبيق تدابير احترازية إضافية في منح التأشيرات، من أجل تقليل فرصة وقوع المواطنين الأفارقة ضحايا هذه الأنشطة الإجرامية أو استخدام تايلاند كطريق عبور، نظراً لأن البلد مركز طيران محوري جنوب شرق آسيا”، حسب بلاغ السفارة في الرباط الذي لم يشر لأي إجراءات خاصة بتمثيلياتها في ماليزيا، نقطة عبور المغاربة.

نصب واحتيال ومداخيل بملايين الدولارات

بمجرد دخولهم إلى هذه المنشآت السرية، سيجد حميد وغيره من الوافدين، أنفسهم مجبرين على العمل القسري تحت حراسة عناصر مسلحة، ولساعات طويلة تصل إلى 17 ساعة دون توقف.

يتم تجريد جميع الضحايا من جوازات سفرهم وهواتفهم النقالة وأي وسيلة أخرى تمكّنهم من التواصل مع العالم الخارجي. وبعدها، توجه لهم تعليمات للعمل في مجال النصب والاحتيال الإلكتروني.

تعمل هذه الشبكات الدولية في عمليات احتيالية منها ما يدعى بـ Pig Butchering التي تجمع بين الإغواء والإغراء بأرباح لعملات الرقمية، حيث تُجبر العاملين المحتجزين على التواصل مع أشخاص من مختلف بقاع العالم، وتحديدا من الولايات المتحدة الأمريكية، لإقناعهم بالتبرع أو الاستثمار في عملات مشفرة وهمية وفي منصات رقمية مزيفة.

هذا النوع من الاحتيال يعدّ الأكثر شيوعا وخطورة في مجال العملات المشفرة، إذ يحرص فيه المحتال على خلق علاقة ودية أو عاطفية مع الضحية عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو مواقع المواعدة، بهدف دفعه للاستثمار الدائم وبمبالغ كبيرة في هذه المنصات، مع وعود بتحقيق مكاسب ضخمة.

استغلت هذه الشبكات الإجرامية الوضع المأساوي الحاصل في غزة من أجل جمع التبرعات للفلسطينيين من طرف المتعاطفين مع القضية، إلا أن هذه المبالغ انتهت جميعها في محافظ رقمية مجهولة.

تفضل شبكات الجريمة المنظمة التعامل بالعملات المشفرة التي يصعب تعقبها. ووفق أحدث تقرير لمعهد الولايات المتحدة للسلام (USIP) الذي أسسه الكونغرس الأمريكي سنة 1984 بواشنطن، فإن الشبكات الإجرامية في دول جنوب شرق آسيا تحقق مداخيل مالية من عمليات الاحتيال تصل إلى 64 مليار دولار سنويا.

التقرير أظهر كذلك أن هذه العصابات المنتشرة في الدول المطلة على نهر ميكونغ- وهي الصين، ميانمار، تايلاند، لاوس، كمبوديا وفييتنام-، تحقق عائدات تتجاوز 43.8 مليار دولار سنويا، جزء كبير منها يتم إرساله إلى الجيش في ميانمار وللطبقات الحاكمة في كمبوديا ولاوس.

يوسف الذي باعه “الحاج” للعصابة المسلحة

في يوم الرابع والعشرين من أبريل الماضي، سينشر حساب Satochi Nakaisho على انستغرام، رسالة استغاثة لإنقاذ العشرات من المواطنين المغاربة المحتجزين في منطقة مجهولة، ستنتشر الرسالة بشكل واسع في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي. قال فيها صاحب الحساب إنه “يعيش أسوأ أيام حياته مختطفا من طرف عصابة صينية، تطالبه بفدية كبيرة إن هو أراد الحرية”.

هذا الحساب الذي يضم حوالي 15 ألف متابع، يعود لشاب مغربي يدعى يوسف، 27 سنة، تم استدراجه من تركيا إلى تايلاند لنفس الغرض. تحكي أخته زهرة، أنه سافر إلى تركيا في رحلة استجمام منذ بداية السنة، ومكث فيها بضعة أيام، والتقى فيها مواطنا مغربيا يُدعى “الحاج”. هذا الأخير سهّل له زيارة دولة النمسا بطريقة تصفها زهرة بالمريبة، خاصة أنه لم يكن يتوفر على تأشيرة شنغن.

تقول محدثتنا إن “الحاج” نجح في إغراء شقيقها بالفردوس التايلاندي بعد تمكينه من السفر سابقا إلى النمسا. سيقرّر ابن مدينة أزيلال تغيير بوصلته نحو آسيا في منتصف شهر أبريل الماضي، وسيتوجه من اسطنبول إلى ماليزيا للحصول على الفيزا، وسيصل إلى بانكوك يوم 18 أبريل 2024.

وعلى غرار حميد والآخرين، سيجد يوسف موظفا من المطار في انتظاره، وسيخرج من بوابة الشخصيات المهمة جدا (VIP) للقاء السائق، وسيمر هو الآخر بنفس المسار، من سيارة لأخرى، حتى وصل إلى “وادي جهنم”.

سيعلم يوسف فيما بعد أن “الحاج” قام ببيعه للعصابة مقابل مبلغ كبير، وخيّره مختطفوه بين العمل أو دفع “الفدية” أو استقطاب مغاربة آخرين لإطلاق سراحه، دون أية ضمانات منهم.

كانت زهرة من القلائل الذين وافقوا على التحدث بوجه مكشوف أمام الإعلام، فبقية الأسر تخاف انتقام العصابات من أبنائها، “الشجاعة التي أبان عنها أخي لفضح العصابة، جعلتني أتحدث إليكم الآن دون خوف، وبفضله أدركت أننا لسنا الضحايا الوحيدين” تؤكد محدثتنا.

يوسف الذي لا زال ينتظر تدخلا رسميا لإنقاذه من بطش العصابات الصينية، تعرّض لتعذيب شديد بعد نشره لـ”ستوري”. وهو الآن يعاني من آثار جروح غائرة على مستوى الأذن والوجه، ومن كسر وانتفاخ في رجليه، كما تعرضت ذراعه للإصابة ولا يستطيع تحريكها إلى الآن.

سفير الصين: نعمل مع عدة دول لتحرير ضحايا شبكات الاحتيال هذه وتفكيكها

حملنا أسئلة العائلات على سفير المغرب بالصين، بحكم أن المعطيات المتوفرة تشير إلى أن هذه “المافيات” يقودها صينيون، فكان رده ‎أن شبكات الاحتيال في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية المنشأة في المناطق الحدودية بين ميانمار وتايلاند تسبب ضررا كبيرا لحقوق ومصالح سكان البلدان المعنية، بما في ذلك المواطنين الصينيين وأضاف السفير الصيني في تصريحه لـ”لسان المغرب” أن الحكومة الصينية تركز على هذه المشكلة وتعمل مع ميانمار وتايلاند ودول أخرى لمكافحة الاحتيال في مجال الاتصالات وتعزيز التعاون الدولي في مجال إنفاذ القانون وتفكيك شبكات الاحتيال هذه وإطلاق سراح الضحايا المسجونين. ‎السفير الصيني عبر أيضا عن رغبة بلاده في تكثيف التعاون مع الأطراف المعنية، بما في ذلك المغرب، وتعميق التعاون في مجال إنفاذ القانون والأمن. وخلص “نأمل أن يتمكن المواطنون المغاربة المحتجزون كرهائن من العودة إلى عائلاتهم في المغرب سالمين معافين في الأيام المقبلة”، كما وجه دعوة إلى السلطات المغربية للتعاون في هذا الباب قائلا “دعونا نكافح معًا ضد شبكات الاحتيال في مجال الاتصالات”.

17 ساعة عمل يوميا وضرب وصعق

لا تختلف قصة ابن محمد ذو الـ25 سنة كثيرا عن غيره، فقد ذهب إلى تايلاند عبر ماليزيا بنفس الطريقة ولنفس الغرض، “العمل في مجال التجارة الإلكترونية مقابل 20 ألف درهم”.

محمد الذي رفض ذكر مدينته أو الإدلاء باسم ابنه لدواعٍ أمنية، أخبرنا بأن جميع الأشخاص المحتجزين في المجمّع يضطرون للعمل لساعات طويلة تصل إلى 17 ساعة، “يجب أن تقضي وقتك كاملا أمام الكمبيوتر، وإن حدث أن غفى أحدهم أمام الشاشة يتم صعقه بالكهرباء مباشرة أو ضرب رأسه بالعصا”.

يحكي الأب المكلوم أن المجمّع يضم صالة رياضية، ومطاعم ومتاجر ومرافق أخرى مخصصة فقط لأفراد العصابة والميليشيات المسلحة.

ويضيف: كل مبنى في “الكمباوند” يضم 200 إلى 300 حاسوب، وكل مجموعة تتكون من 12 فردا يحرسهم شخص مسلح، وينامون في غرف بها عدة أسرّة بطابقين.

يتواصل الابن مع والده بشكل متقطع، فالعصابة الإجرامية تقوم بمدّ الضحايا بهواتف جديدة مُراقبة للتواصل مع أسرهم عبر تطبيق واتساب لمدة محدودة، مع منعهم من الإدلاء بأية معلومة تكشف موقعهم الجغرافي أو استعمال الكاميرا، وإلا فإن مصيرهم يكون “الغرفة السوداء”.

قصة ياسين (اسم مستعار) تتقاطع في تفاصيل كثيرة مع سابقيه. فقد أجرى بدوره عدة اختبارات مع صينيين لتقييم كفاءته في المجال الرقمي لمدة شهر ونصف، ثم وافق على الذهاب إلى تايلاند مقابل منصب مسؤولية في الشركة المزعومة.

توصل ياسين بعقد عمله المزور عبر البريد الإلكتروني، وسافر إلى بانكوك في دجنبر الماضي بنفس الطريقة، إلى أن وصل إلى KK PARKالمجمّع بعد 12 ساعة من السفر.

كان ياسين يتأخر في الردّ على رسائل أهله منذ وصوله إلى هناك، ولا يُسمح له باستخدام الهاتف إلا لِماما. أمام هذا الوضع، ستلح أخته نجاة (اسم مستعار) ليرسل لها أرقاما هاتفية أخرى لتطمئن عليه، ويحدد لها موقعه الجغرافي.

انقطعت أخبار ياسين عن أهله منذ ذلك الحين، ولم يُسجّل دخوله إلى تطبيق واتساب لأيام طويلة. سيظهر الأخ بعد بضعة أسابيع، وستظهر عليه علامات المرض النفسي الشديد جراء التعذيب المتواصل الذي تعرّض له. تقول نجاة بحرقة: “هذا ماشي خويا لي كنعرفو، ولاّ كيدخل ويخرج فالهضرة. لقد أصبح غير متزن نفسيا، ويقوم بحركات غريبة بعينيه ووجهه. يجب إنقاذه، إنه ليس في حالة عقلية سليمة”.

هلوسة وتجويع.. وجبات رديئة من لحم خنزير

يعاني الشباب المحتجزون، نساء ورجالا، من أبشع ظروف العبودية داخل مخيم KK PARK (المجمّع). ساعات عمل طويلة دون مقابل، ووجبات رديئة عبارة عن أرز ولحم خنزير تنبعث منها روائح كريهة لا يقوى أحد على أكلها.

يقول محمد إن الكثيرين ممن تناولوا هذه الوجبات المجانية أصيبوا بالتسمم، لذا تقدم العصابات للبعض منهم بطاقات معبأة تسمح لهم بشراء بعض المواد الغذائية داخل متاجر الكمباوند، ويضيف: “الفلوس ما كتخرجش من تما، كل ما يقدمونه لهم من أموال في هذه البطاقات يتم صرفها في متاجرهم حصرا. وحتى قيمة هذه البطاقات تسمح لهم فقط بشراء كميات قليلة من الأكل بسبب ارتفاع أسعارها.. تخيلي أن علبة مشروب غازي واحد تصل إلى 300 درهم”.

تتلذذ هذه العصابات بممارسة أبشع أنواع التعذيب في حق محتجزيها، ممن يرفضون الخضوع لأوامرهم أو يتأخرون عن موعد العمل أو حتى من يتأخر في الرد على العميل أو يشعر بالنعاس أمام شاشة الكمبيوتر.

تؤكد حنان أن الكثيرين تعرضوا للهلوسة أو الجنون بفعل ساعات العمل الطويلة والضغط النفسي الرهيب. وتكشف: “إذا امتنع أحدهم عن العمل يقودونه فورا إلى الغرفة السوداء.

هناك، يصعقونهم بالكهرباء بعد رشهم بالماء، يكبّلونهم ويعلّقونهم من الأيدي والأرجل لمدة طويلة قد تصل إلى 48 ساعة أو 72 ساعة. لا يسمح لهم بدخول الحمام خلال ساعات التعذيب الطويلة، يتبولون ويتبرزون داخل ملابسهم.. وإذا انزعج الجلاد من الرائحة الكريهة، “كيخليوهم يدوشو دغيا ويرجعوهم يتعذبو من جديد”.

صرّحت حنان لـ”لسان المغرب” أن الضجة الإعلامية وتحركات الدولة المغربية دفعت الصينيين لتشديد المراقبة على المواطنين المغاربة المحتجزين لديهم، ومنعت التواصل بينهم بشكل كلي داخل “الكمباوند”.

رواية السفارة التايلاندية

بعد انتشار أخبار على مواقع التواصل الاجتماعي تفيد سقوط شباب مغاربة ضحايا لشبكات “إجرامية” دولية بتايلاند تتاجر بالبشر، لم تنف صفحة تبدو رسمية بفايسبوك تحمل اسم السفارة التايلاندية في المغرب، صحة هذه الأخبار بالرغم من أنها وصفتها بـ”الأخبار غير الدقيقة”.

هذه القضية التي تفجرت خلال الأسابيع القليلة الماضية والتي جرت مساءلات برلمانية على وزير الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، بعد خروج عائلات هؤلاء الشباب المغاربة، تؤكد أن أبناءهم محتجزين في قبضة هذه “العصابات” التي “تمتهن النصب والجريمة الإلكترونية”.

وأكدت السفارة في البلاغ المنسوب لها، هذه الأخبار الرائجة، مشيرة إلى أن هذه الحوادث “صارت تتكرر خلال السنوات الأخيرة، ولم تنف وجود مغاربة من بين الضحايا الذين سقطوا بين أيادي هذه الشبكات “الإجرامية”.

وقالت إنه “في الآونة الأخيرة تواترت أخبار غير دقيقة وغير محققة وتفاصيل غير دقيقة حول الاحتجاز غير القانوني لمواطنين مغاربة في جنوب شرق آسيا، حيث ذكر البعض أن الحادث وقع في تايلاند.”

لكنها أكدت بالمقابل أن “حادثة استدراج الشبكات الإجرامية الدولية لبعض الرعايا الأفارقة إلى بعض المناطق في جنوب شرق آسيا ظاهرة حديثة نسبياً تخص مواطنين من العديد من دول العالم، وتعمل الحكومات في جنوب شرق آسيا وأفريقيا بشكل مشترك للتصدي لها”.

وتابعت أنه “توجب فهم أن هذه حالات تعود لمواطنين من عدة جنسيات وقعوا ضحايا للشبكات الإجرامية الدولية وعمليات الاتجار بالبشر التي تقيم منشآت بشكل غير قانوني وماكر في المناطق الحدودية النائية في جنوب شرق آسيا”.

وأضافت أنه “قد وقع مواطنون من مختلف البلدان الأفريقية، وليس فقط من المغرب، ضحايا لمثل هذه العصابات الدولية للاتجار بالبشر وعصابات الجريمة الإلكترونية”. وقالت إنه “من الصعب التحقق من العدد الدقيق لهؤلاء الضحايا المحتملين وجنسياتهم وأماكن وجودهم”.

ولا تزال التحقيقات التي تجريها وكالات إنفاذ القانون الوطنية والدولية، جارية وفق بلاغ الصفحة التي تحمل اسم السفارة التيلاندية بالمغرب.
وقالت إنه و“كتدابير أولية ووقائية، أصدرت الحكومة التايلاندية تعليمات للسفارات التايلاندية في أفريقيا بتطبيق تدابير احترازية إضافية في منح التأشيرات من أجل تقليل فرصة وقوع المواطنين الأفارقة ضحايا لهذه الأنشطة الإجرامية أو استخدام تايلاند كطريق عبور نظراً لأن تايلاند محور طيران في جنوب شرق آسيا”.

وبشأن ذهاب هؤلاء الشباب، أكدت السفارة “أن العديد من الأفراد عادةً ما يتقدمون بطلبات للحصول على التأشيرات عن طيب خاطر، بدافع تحقيق مكاسب مالية من خلال المعلومات المضللة التي يتلقونها من شبكات الاتجار الدولية هذه”.

وألقت السفارة باللوم على الضحايا معتبرة أن “هؤلاء الأفراد في بعض الأحيان يقومون بتقديم معلومات كاذبة للسفارات، متذرعين بالسياحة أو غيرها من الأغراض المشروعة كأسباب لسفرهم. وربما تلقى بعضهم مساعدة من هذه الشبكات الإجرامية في تقديم معلومات أو وثائق مزورة للسفارات”.

وأكدت أن “سفارة المملكة التايلاندية في الرباط تؤكد أن الحكومة التايلاندية مستعدة للتعاون مع حكومات جميع البلدان التي تم استدراج مواطنيها أو احتجازهم من قبل هذه الشبكات الإجرامية الدولية، وتعمل بشكل وثيق مع الوكالات الحكومية في البلدان المعنية”.

الفدية مقابل الخروج من “جهنم”

تشدد حنان في حديثها معنا على انعدام فرص الهروب من “جهنم” في ظل الحراسة المشددة المفروضة على المحتجزين. قد تكون من المحظوظين ويطلبون منك فدية تصل حتى 30 ألف دولار، كتعويض عن مصاريف تذاكر الطائرات والفندق والتنقل والأكل والفيزا، “يطلبون الفدية من البعض فقط، غير لي ما صالحش ليهم ولا ماكيعرفش يخدم أو يزعجهم وجوده بطريقة ما”، توضح محدثتنا.

تحقق هذه الشركات الوهمية ملايين الدولارات شهريا، ومبلغ الفدية لا يساوي شيئا أمام هذه المداخيل الضخمة. تفرض هذه المنظمات غير الشرعية على أهالي المحتجزين التوصل بهذه المبالغ بعملات مشفرة حتى لا يتم تتبعهم أو تتبع مصير أموالهم.

أخبرنا محمد بأن ابنه حاول الانتحار غير ما مرة، وهو ما دفع هذه العصابة لطلب الفدية مقابل إطلاق سراحه، “طلبوا منا دفع 100 ألف درهم بعملة مشفرة اسمها “USDT”، لتعويضهم عن مصاريف استقدامه إلى البلاد، ومقابل المبلغ الذي دفعوه “لشراء ابني” من أحد الوسطاء المغاربة”.

يعدّ التعامل بالعملات المشفرة أمرا غير قانوني في المغرب، حيث سبق لمكتب الصرف التابع لوزارة الاقتصاد والمالية، أن أصدر في فبراير 2021، دورية تمنع التعامل بالعملات الرقمية لخطورتها، و”لأن ذلك يشكل مخالفة للقوانين الجاري بها العمل، ويعرض مرتكبيها للعقوبات والغرامات”، وعلى اعتبار أن “هذه العمليات يمكن استخدامها لأغراض غير مشروعة بما في ذلك غسيل الأموال أو تمويل الأنشطة الإجرامية”.

مريم أول مغربية تم تحريرها

تمكنت مجموعة من المنظمات الإنسانية الدولية من تحرير عدة أجانب كانوا محتجزين في هذه المجمعات، أو مساعدتهم على الهروب بطريقة ما. في فبراير الماضي، توصلت الصين إلى اتفاق مع تايلاند وميانمار للإفراج عن 1200 شخص معظمهم صينيون.

في ماي الماضي، أعلنت الحكومة الأوغندية عن نجاح تدخلاتها للإفراج عن أزيد من 20 مواطنا أوغنديا على مراحل. وفي نفس الشهر، نجحت اللجنة الرئاسية الفلبينية لمحاربة الجريمة المنظمة (PAOCC) من إنقاذ 6 مواطنين فيليبينيين وإعادتهم إلى أرض الوطن بعد تجربة مريرة داخل مخيمات الذل والاستعباد.

كانت بشرى أول مغربية يتم تحريرها من قبضة العصابات الصينية بعد تدخل منظمات إنسانية دولية. وتحكي أنه تم استدراجها في تركيا من طرف مواطن مغربي آخر كانا يدرسان معا في سلك الماستر في إسطنبول.

قررت هذه الشابة المغربية الانقطاع عن دراستها والالتحاق بعملها في تايلاند مقابل 4 آلاف دولار شهريا. في مخيّم KK PARK، ستكتشف بشرى أن عملية الإيقاع بضحايا الاحتيال تتم في مرحلتين، البداية مع فئة “الراقنون” (Typers) الذين يقومون بالتواصل كتابيا مع الضحايا لإقناعهم بالاستثمار، أما الفئة الثانية هم “العارضون” (Models)، فيتولون مهمة التواصل مع الضحية مباشرة عبر الفيديو باستعمال الذكاء الاصطناعي، وبشرى كانت من بين هؤلاء.

هذا المعطى أكدته لنا بشرى خلال حوارها مع “لسان المغرب”، حيث أطلعتنا على مقطع فيديو لا تتجاوز مدته ثلاث ثوان، يظهر استعمالهم لبرنامج تغيير صوت وصورة المستخدم بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، من أجل تضليل الضحايا.

وأمام كل هذا، ستضطر بشرى للخضوع لأوامر رؤسائها لمدة 3 أشهر إلى أن تمكنت المنظمات الإنسانية بمساعدة والدها من فكّ سراحها. يوضح والد الضحية في حديثه معنا أنه تم تقديم الفدية لتحرير سبعة مغاربة آخرين، بالتعاون مع هذه المنظمات الدولية؛ إلا أن اثنين منهم فقط تمكنوا من المغادرة، فيما احتفظوا بالآخرين قيد الاحتجاز دون معرفة السبب إلى الآن.

وكشفت السفارة التايلندية بالمغرب في بلاغها الرسمي، أنه يصعب التحقق من العدد الدقيق أو أماكن تواجد الضحايا من جنسيات إفريقية، من بينهم مغاربة، وأن التحقيقات التي تقودها وكالات إنفاذ القانون الوطنية والدولية لا زالت مستمرة.

السفارة أكدت أن حكومة بلدها مستعدة للتعاون مع حكومات جميع البلدان التي تم استدراج مواطنيهم أو احتجازهم من طرف هذه الشبكات الإجرامية الدولية، كما أنها تعمل بشكل وثيق مع الوكالات الحكومية المعنية في الدول المعنية.

حكت الشابة بشرى التي كانت محتجزة لدى عصابات الاتجار بالبشر في ميانمار، عن تفاصيل مروعة عن أوضاع الاحتجاز هناك واصفة المكان الذي كانت محتجزة فيه بأنه “جحيم على الأرض” فيما قالت عائلات الضحايا إنها “تنتظر من السلطات المغربية “أفعالا لا مجرد أقوال”.

قضية تسائل بوريطة

بعد تفجر هذه القضية خلال الأيام الماضية، وُجهت مساءلات برلمانية لوزير الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة.

ووجهت في هذا الصدد، فاطمة التامني النائبة البرلمانية عن “فدرالية اليسار الديمقراطي” سؤالا كتابيا إلى ناصر بوريطة، حول احتجاز العشرات من الشبان المغاربة في تايلاند.

وأوضحت التامني في ذات السؤال أن عشرات الشابات والشبان المغاربة تم احتجازهم في أماكن مغلقة، وأجبروا على العمل بدون مقابل بأساليب تفتقد للإنسانية”.

وقالت النائبة البرلمانية ذاتها أن “ذلك تم بعد وصولهم إلى تايلاند، حيث تم اختطافهم واحتجازهم في مجمعات سكنية على الحدود مع ميانمار، لإجبارهم على العمل في شبكات الاحتيال الإلكتروني في ظروف قاسية، ولمدة لا تقل عن 17 ساعة أمام الحواسيب”.

وأشارت إلى أن هؤلاء الشبان يتعرضون للتعذيب من قبل أفراد ميلشيات، عند محاولتهم التواصل مع عائلاتهم، مما بات مدعاة لقلق عميق تجاه سلامة هؤلاء الشباب، بعدما تم إيهامهم في وقت سابق أنه سيتم التكفل بهم، وبعد إيهامهم بفرصة عمل، وذلك على إثر انتشار التجارة الإلكترونية التي باتت منفذا للعديد من الشبان المغاربة من أجل الاستثمار فيها، خاصة في الدول الأسيوية.

وساءلت التامني وزير الخارجية عن الخطوات التي ستقوم بها الحكومة لمعالجة هذه القضية، وعما إذا هناك أي اتصالات مع السلطات التايلاندية والميانمارية من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لإنقاذهم من هذه المحنة.

عائدة من “الجحيم”: صُلبت في الغرفة السوداء

كانت بشرى تغالب دموعها وهي تعود بذاكرتها إلى تفاصيل رحلتها إلى الجحيم، في ندوة صحافية نظمتها لجنة “عائلات ضحايا الاتجار بالبشر بميانمار” يوم الخميس 16 ماي 2024 بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.

وصفت بشرى المكان الذي احتجزت فيه قبل أن تتمكن من النجاة بـ”الجحيم فوق الأرض”.

واستحضرت المتحدثة في كلامها “لحظات قاسية” عاشتها هناك، وقالت إن “المحتجزين يتعرضون لشتى أنواع التعذيب، مشيرة إلى أنها “ذاقت مرارة كل ذلك”. وقالت بشرى إنها كانت تكابد ألم الاحتجاز والتعذيب إلى جانب الألم النفسي الذي كان يداهمها كل لحظة “لأنها كانت مجبرة على جر ضحايا آخرين إلى ذلك المكان من أجل ضمان حياتها”.

وشهدت بشرى طوال فترة احتجازها “مآسي شباب ضحايا آخرين” وقالت إنها “رأت حادثة انتحار ومشهد جريمتي قتل”، وأضافت أن أفراد العصابة كانوا يعذبون الضحايا “لأسباب لا يمكن أن تخطر على بال، كأن تتأخر بضع دقائق مثلا”.

ومضت تحكي أن العقوبات هناك تتصاعد بالتدرج، “في البدء قد تدفع ثمن ما يرونه خطأ بالمال، ثم الصعق الكهربائي ثم ينتهي بك المطاف في الغرفة السوداء حيث يقترف الجلادون هناك الفظائع”. وتعرضت بشرى لكل هذه العقوبات إلى أن قضت ثلاثة أيام مصلوبة في الغرفة إياها.

بين العقوبات المالية والغرفة السوداء، توجد سلسة عذابات أخرى كأن يجعلوك تجري في الساحات تحت الشمس الحارقة دون توقف أو المنع من المأكل والمشرب “بينما ينتشون هم بهذا الكم الهائل من الألم”. وعن تفاصيل السكن هناك قالت بشرى إن ظروف العيش هناك “يرثى لها”.

وقالت إنهم كانوا يجعلوننا نشتغل لأكثر من 12 ساعة دون توقف، وفي السواد الأعظم من الحالات دون مقابل، وتابعت أنهم كانوا يدفعون لمن شاءوا ويمنعون الأجر عمن شاءوا أيضا، مشيرة إلى أنهم في البدء كانوا قد تعاقدوا معها أن تشتغل مقابل أربعة آلاف دولار، إلا أنها لم تتقاض المبلغ.

العائلات لا تنتظر الكلام بل تريد الأفعال

من جانبه، وخلال نفس الندوة، قال أب الضحية بشرى التي كانت محتجزة إن عائلات الضحايا تنام وتستيقظ كل يوم على “جحيم” فكرة أن فلذات كبدها محتجزة لدى عصابات “مجنونة لا ترحم”، معتبرا أن “الأمر تطلب منهم كعائلات جرأة وشجاعة هائلتين لتخرج إلى العلن بالتفاصيل”، وذلك، وفق الأب، لأن “أبناءهم عالقون في أيادي قتلة ومن الممكن أن تشكل إثارة هذه القضية تهديدا حقيقيا على حياتهم”. وفي هذا الصدد طالب الأب بضرورة “التدخل الجدي للسلطات”.

وتمكن، وفق المعلومات التي أدلت بها عائلات الضحايا، سبعة شباب من النجاة بعد أن دفعوا فدية مقابل “الحرية”، تتراوح بين 60 ألف درهم و100 ألف درهم. وقال الأب في هذا الصدد إن العمل الذي كان يفترض أن تقوم به سفارة المملكة ببانكوك، قامت به منظمات دولية تشتغل في مجال العمل الإنساني والتي قدمت المساعدة للضحايا “المحررين”.

وتابع الأب أن العائلات، وطيلة هذه المدة التي مرت منذ أن تفجرت القضية، “لم تجد أي مخاطب حقيقي من طرف السفارة إياها”، مضيفا: “كأنها في عطلة وليست في مهمة دبلوماسية”، وهو الأمر “الذي حز كثيرا في أنفس العائلات المكلومة” وفق تعبير الأب ذاته.

وفيما يتعلق بالتحركات الرسمية الأخيرة بعد أن اعترفت سفارة المملكة بتايلاند يوم الأربعاء 15 ماي عبر السفير عبد الرحيم الرحالي رسميا بالقضية، والذي صرح بأن هناك جهودا من أجل إنقاذ الضحايا، علق الأب قائلا: “إننا كعائلات لا ننتظر الكلام بل نريد الأفعال”.

وقال التحدث نفسه “إن أبناءنا محتجزون لدى عصابات ليست في قلوبها ذرة رحمة.. إنهم مجرمون ومجانين، وحياة هؤلاء الشباب مهددة بالموت في أي حين”. وأضاف في هذا الصدد إنه وفق المعلومات التي تصلهم من الشباب المحتجزين، فإن هذه العصابات قامت بترحيل المغاربة إلى “معسكرات” أخرى توجد في كمبوديا بعد أن تفجرت القضية إعلاميا.

المهدي”.. وسيط قاد “إخوته” المغاربة إلى “المسلخ

“المهدي”…هذا الاسم تردد كثيرا على لسان عدد من الضحايا وعائلاتهم، وأيضا على لسان منظمات اشتغلت على موضوع المحتجزين، وساهمت في تحرير عدد منهم.

يوصف بأنه “المغربي الحاكم” في الـ”مجمع”. وهو، وفق عدد من الضحايا وأيضا المنظمات التي اشتغلت على الملف، من أشهر الوسطاء المغاربة الذين قادوا عددا من الشباب المغاربة إلى “مدن الاحتيال”، بحيث يتولى عملية الاستقطاب بشكل محترف.

ينحدر من مدينة مراكش ويعيش وسط المجمع حياة مختلفة عن “إخوته” المغاربة. فهو الوسيط الذي يحظى بمكانة مميزة ورفيعة داخل المجمع يضمنها له القائمون عليه.

تعرفه المنظمات التي اشتغلت على الموضوع ب”الوسيط الكبير”، وبأنه “شخص ناجح في عمله الذي يطلب منه، وهو استقطاب الضحايا المغاربة وإيصالهم إلى “مدن الاحتيال”.

يعيش حياة “الرفاهية” بين أعضاء التنظيمات المسلحة…أكله مختلف عن أكل باقي العناصر المحتجزة هناك، كما أنه يتحرك بحرية وبإمكانه الدخول والخروج من المجمع بشكل طبيعي للغاية، كلما تعلق الأمر بمهمة استقطاب جديدة.

يقوم “المهدي” بعمليات التواصل مباشرة بشباب مغاربة من الراغبين في تحسين ظروف عيشهم، وبعد ذلك تتم عملية الإغراء بالأموال وعقود العمل، ومنها ينتقل إلى المهمة الأكبر وهي الإحالة على “الجهات” المكلفة بترتيب عمليات السفر، بدءا من الحصول على التأشيرات وصول إلى عبور “وادي جهنم”.

مشاهد حصرية من داخل الكمباوند

حصلت صحيفة “لسان المغرب” على صور وفيديوهات حصرية من داخل مخيّم KK PARK حيث يحتجز العشرات من الشباب والمغاربة، في ظروف لا إنسانية.

يبدو المكان أشبه بورش في طور البناء.. مبان من ثلاثة طوابق لم تصل إلى المرحلة النهائية من البناء. تظهر معظمها بطوب أحمر، والقليل منها بطلاء أبيض وأزرق يرجح أنها مخصصة للمشرفين على المجمع. المكان أشبه بمستودعات لتخزين السلع منه إلى بنايات سكنية، تتوسطها نوافذ متقاربة، أو بالأحرى أقرب إلى سجن كبير بمرافق محدودة.

من الصور الحصرية التي حصلت عليها “لسان المغرب” صورة المكان الذي يتم الاشتغال فيه، وهو عبارة عن صالة بها طاولات متراصة وضعت فوقها حواسيب متقاربة، وكراسي لا يفصل بينها سوى بضع سنتمترات. في ركن من الصالة وضعت ثلاجة، غير أن صورة المكان تبدو أشبه بمخزن للمتلاشيات أكثر منه مكانا للعمل.

وسط “الكمباوند” تظهر ساحة كبيرة يقف وسطها مجموعة من الشباب تحت أشعة الشمس الحارقة. مصادر “لسان المغرب” قالت إن “الوقوف تحت أشعة الشمس هو نوع من التعذيب الذي يتعرض له المحتجزون في حالة مخالفتهم للأوامر، أو في حالة ضبطهم يتواصلون مع عائلاتهم وينقلون تفاصيل المجمع إلى الخارج”.

في صورة أخرى، يظهر ممر طويل يضم الغرف التي تأوي المحتجزين، وضعت أمامها حاويات أزبال صغيرة. الغرف من الداخل، وفق صور أخرى حصلنا عليها، أشبه بالأقبية…غرفة مظلمة بأسرة حديدية تشبه أسرّة السجون.

يظهر المحتجزون وهم يتحركون وسط “الكمباوند” في شكل مجموعات من 3 إلى 5 أفراد. يبدو أنهم كانوا في فسحة، ويمرون من أمام زملائهم الواقفين تحت أشعة الشمس بشكل عادي للغاية.. يبدو أنهم طبعوا مع مشاهد مماثلة، أو ربما خوفا من ردة فعل الحراس.

من الوثائق والمعطيات الحصرية التي توصلت إليها “لسان المغرب” في رحلة البحث خلف الأسوار المغلقة ل”مخيمات” الرعب، تسجيلات صوتية مرعبة، يسمع فيها صوت ضحية محتجز وهو يتعرض للصعق بالكهرباء على أنغام الموسيقى. كان الضحية يصرخ ويئن فيما جلادوه يستمتعون بنغمات موسيقى عالية الصوت، يعم صداها المكان.

التسجيل الصوتي الذي لا تتعدى مدته 14 ثانية يعكس فظاعة ما يتعرض له المغاربة وغيرهم من المحتجزين، ويسمع منه صوت الجلاد أيضا الذي بدت لكنته آسيوية. إلى جانب تسجيل آخر مدته 24 ثانية يتعلق هو الآخر بحصة تعذيب بالصعق بالكهرباء، والضحية يئن بصوت مبحوح لدرجة يخيل لمن يسمعه أنه مغمى عليه من شدة التعذيب.

من خلال الصور والفيديوهات التي حصلنا عليها، يبدو المكان مخيفا ومحروسا للغاية. “مجمّع” وسط غابة بعيدة، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود…أشجار صغيرة متناثرة هناك وهناك، وشباب بسحنات إفريقية وآسيوية يتجولون بحذر… ملامح وجوههم تشي بالاستسلام لواقع مرير لا حيلة لهم لتجاوزه، فيما آخرون يسترقون النظر من منافذ غرفهم بحذر شديد.

وسط الساحة، تنتصب منصة مراقبة عالية لا يظهر من بداخلها، لكنه شخص، وفق شهادات إحدى العائدات، من أعضاء المجموعة المسلحة، والذي يتولى عملية مراقبة المخيم بكاميرات مثبتة في كل مرفق.

السلطات المغربية تتفاعل

بعد تحركات الأسر وإطلاقها صرخات استغاثة لإنقاذ أبنائها، خرج الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء ببلاغ رسمي في الموضوع، معلنا فتح بحث قضائي حول تعرض بعض المواطنين المغاربة للاحتجاز من طرف عصابات إجرامية ناشطة بميانمار في المناطق الحدودية مع تايلاند، عهد به للفرقة الوطنية للشرطة القضائية.

الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، أكد في بلاغ له صادر في 15 ماي 2024، أنه “على إثر تعرض بعض المواطنين المغاربة للاحتجاز من طرف عصابات إجرامية ناشطة بميانمار في المناطق الحدودية مع تايلاند، قد أمر بفتح بحث قضائي في الموضوع عهد به للفرقة الوطنية للشرطة القضائية”.

وتم الاستماع لبعض الضحايا وعائلات البعض الآخر منهم، لاسيما الذين تقدموا بشكايات في الموضوع، حيث أظهرت نتائج الأبحاث الأولية عن كون الأمر يتعلق بوجود شبكات إجرامية متخصصة في الإتجار بالبشر تنشط بالمناطق الحدودية لميانمار، توهم ضحاياها بإبرام عقود عمل بالمناطق المذكورة تحت غطاء عمل بشركات دولية للتجارة الإلكترونية، مقابل أجرة مغرية، غير أنه تبين أن ذلك كان فقط من باب النصب والتغرير بهم واستغلالهم عن طريق احتجازهم وإرغامهم على العمل في ظروف قاسية.

*هذا التحقيق منشور في العدد 22 من مجلة “لسان المغرب”، لتحميل العدد يرجى الضغط على الرابط