story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل ينجح ترامب في استمالة موسكو؟

ص ص

تنطوي سياسة ترامب تجاه روسيا على استراتيجية متعددة الأبعاد؛ فمن جهة، تسعى واشنطن إلى استمالة موسكو بعيدا عن التحالف مع الصين، مما قد يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية العالمية. ومن جهة أخرى، تعكس هذه الخطوات تحولا في السياسة الخارجية الأمريكية يتجاوز العلاقات الشخصية بين ترامب وبوتين، حيث تقدم واشنطن تنازلات غير مسبوقة لروسيا، مثل الضغط على أوكرانيا لقبول شروط سلام مجحفة، ورفض ضمها للناتو، وحتى التوقف عن مشاركة المعلومات الاستخباراتية معها. خطوات تخدم بشكل واضح مصالح روسيا الاستراتيجية، لكنها تثير تساؤلات حول ما إذا كانت جزءا من صفقة أكبر تهدف إلى كسر التحالف الروسي–الصيني، أم أنها مجرد نتيجة لرؤية ترامب التي تفضل التقارب مع القوى الاستبدادية على حساب الحلفاء التقليديين؟

صحيح أنه إذا نجحت هذه الاستراتيجية، فقد تؤدي إلى إضعاف التحالف الصيني–الروسي، مما يعيد تشكيل موازين القوى العالمية. لكن المخاطر تبقى كبيرة؛ فالتخلي عن أوكرانيا والحلفاء الأوروبيين قد يقوض مصداقية الولايات المتحدة كحليف موثوق به، ويفتح الباب أمام مزيد من التوسع الروسي في أوروبا الشرقية. كما أن دعم ترامب للسردية الروسية حول الحرب –بإلقاء اللوم على أوكرانيا– يُضعف المبادئ الديمقراطية التي تدعي أمريكا الدفاع عنها. وفي النهاية، سواء كان الدافع عزل الصين أو مجرد انحياز شخصي، فإن هذه السياسة قد تؤدي إلى تفكك النظام الأمني الأوروبي، وتمكين روسيا من فرض شروطها على الساحة الدولية دون ضمانات حقيقية بأن موسكو ستقلص تعاونها مع بكين.

وتشير التحركات الأمريكية الأخيرة إلى محاولة جادة لكسر التحالف الروسي–الصيني، كما أكد وزير الخارجية ماركو روبيو في تصريحاته التي عبّر فيها عن قلق الإدارة الأمريكية من تحول روسيا إلى “شريك ثانوي” خاضع للصين، مشيرا إلى أن هذا السيناريو يهدد المصالح الأمريكية والأوروبية بل والاستقرار العالمي. وبالتالي تتناغم هذه الرؤية مع خطوات ترامب العملية التي تشمل تخفيف الضغوط على موسكو والضغط على الحلفاء الأوروبيين، مما يمثل انقلابا على السياسات الأمريكية المتبعة منذ الحرب العالمية الثانية. لكن يبقى السؤال المفتوح: هل هذا التوجه يعكس استراتيجية مدروسة لعزل الصين، أم مجرد تكتيك مؤقت قائم على حسابات ترامب الشخصية ورؤيته غير التقليدية للعلاقات الدولية؟

وإذا كانت السياسة الأمريكية تجاه روسيا والصين تشهد تحولا جذريا يُذكرنا بخطة الرئيس نيكسون عام 1972، لكن بمنطق معكوس. فبينما نجح نيكسون في عزلة الاتحاد السوفيتي عبر التقارب مع الصين، تسعى إدارة ترامب الآن لعزل بكين عبر استمالة موسكو، وعدم ترك هذه الأخيرة لتتحول إلى “مورد خام تابع للصين”، مما يعزز التفوق الصيني على أمريكا. هذه الرؤية تلقى معارضة صينية حادة، حيث وصف المتحدث باسم الخارجية الصينية هذه المحاولات بأنها “محكوم عليها بالفشل”، مؤكدا متانة التحالف الصيني–الروسي القائم على مصالح استراتيجية عميقة.

وبالرغم من الطموح الأمريكي لتكرار نجاح دبلوماسية نيكسون، فإن العقبات أمام هذه الخطة كبيرة. فتحالف الصين وروسيا اليوم أكثر رسوخا من التحالف السوفيتي–الصيني في السبعينيات والذي كان سياقه الجيوسياسي مختلفا بالطبع، فقد كان التنافس الحاد على زعامة المعسكر الشيوعي، مصحوبا بخلافات حدودية وحرب باردة بينهما العنوان الأبرز لتلك المرحلة. في حين تحولت هذه العلاقة اليوم إلى تقارب استراتيجي، حيث ترى روسيا والصين في الولايات المتحدة تهديدا مشتركا، مما عزز تحالفهما في مواجهة الضغوط الغربية.

كما أن الصين قد استفادت في تلك الفترة من انفتاح السوق الأمريكية عليها، مما ساهم في نهضتها الاقتصادية. أما اليوم، فمن غير المرجح أن تقدم الولايات المتحدة مثل تلك الإغراءات الكبيرة لروسيا، مثل رفع العقوبات أو الاعتراف بمكاسبها الإقليمية، خاصة في ظل الضغوط الأوروبية وحلف الناتو.

وإذا كانت تنازلات ترامب لروسيا تثير حفيظة الحلفاء الأوروبيين وتضعف المصداقية الأمريكية. فإن بعض الخبراء يشككون في جدوى هذه الاستراتيجية، محذرين من أن روسيا قد تستفيد من التقارب الأمريكي دون التخلي عن شراكتها مع الصين، مما قد يترك أمريكا في موقف أضعف. فهل يمكن لأمريكا مثلا أن تكسر تحالفا تجاوز حجم التبادل التجاري بين طرفيه 200 مليار دولار عام 2023، أم أن هذه المحاولة ستؤدي فقط إلى تعميق الشرخ بين واشنطن وحلفائها التقليديين؟

وتواجه الاستراتيجية الأمريكية لاستمالة روسيا عقبات كبرى تجعل نجاحها مشكوكا فيه. فالتحالف الروسي–الصيني يتجاوز كونه تحالفا تكتيكيا مؤقتا، حيث تجذرت العلاقات بين البلدين عبر روابط اقتصادية استراتيجية عززتها الحرب الأوكرانية، فقد أصبحت الصين المستورد الأول للنفط الروسي (62 مليار دولار عام 2024)، فيما تزود الصين روسيا بـ 90% من أشباه الموصلات اللازمة للصناعة العسكرية، إلى جانب أن البلدين عملا على إنشاء نظام مالي بديل عن نظام SWIFT الغربي. ومن ناحية أخرى تقارب جيوسياسي عميق بإعلان “الصداقة بلا حدود” قبل الحرب الأوكرانية، والتعاون العسكري المتزايد في مجال التسلح والتكنولوجيا، والمواجهة المشتركة للهيمنة الغربية في المحافل الدولية.

ولا تكتفي روسيا في تحالفاتها مع الصين ودول “بريكس” على النظام المالي البديل عن الغرب، أو التعاون العسكري المتقدم فقط، بل هي جزء من مشروع أكبر لمواجهة الهيمنة الأمريكية وإعادة تشكيل النظام الدولي. فالتعاون مع هذه الدول يعزز استقلاليتها ويقلص اعتمادها على الغرب. حتى لو حاولت واشنطن إغراء روسيا بتحسين العلاقات الاقتصادية، فإن موسكو تفضل الحفاظ على تحالفاتها الحالية التي تدعم سياستها الطويلة الأمد في بناء عالم متعدد الأقطاب.

ومن هذا المنطلق، يؤكد الخبراء أن موسكو لن تضحي بشراكتها مع بكين بسهولة، وذلك لاعتبارات أهمها المصالح الروسية الحيوية المرتبطة بالصين أكثر من أمريكا، خاصة في قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، والذاكرة التاريخية للعلاقات الروسية–الأمريكية المليئة بحوادث الخيانة والخيبات، والتكامل الاستراتيجي بين موسكو وبكين الذي يوفر لروسيا غطاء ضد العزلة الدولية. وبينما تحتاج روسيا إلى دعم دبلوماسي وعسكري قوي، فإن دول “بريكس” لن تستطيع تقديمه بنفس فعالية الصين. فتحالفات الجنوب، رغم أهميتها الاقتصادية، تظل غير قادرة على منح موسكو الغطاء السياسي أو العسكري المطلوب، مما يجعل الاعتماد على بكين خيارا لا بديل عنه في الأمد القريب.

وفي هذا الإطار تدرك روسيا أنها لو أصبحت حليفة لأمريكا، فستظل الشريك الأضعف، بينما علاقتها بالصين أكثر توازنا. وبالتالي لا يمكن لروسيا أن تغير تحالفاتها إلا إذا قدمت الولايات المتحدة تنازلات كبرى، مثل رفع العقوبات بالكامل أو تقديم ضمانات أمنية بشأن أوكرانيا وحلف الناتو. لكن مثل هذه الخطوات غير واقعية في الظرف الحالي، لأنها تتطلب تغييرا جذريا في السياسة الغربية، وهو ما ترفضه أوربا ودول الناتو. وحتى لو تحققت هذه الشروط، فإن موسكو ستدرس أي عرض بحذر شديد لتجنب فقدان مكاسبها الاستراتيجية مع الصين وبريكس. وبينما قد يلعب بوتين بورقة التقارب الأمريكي مؤقتا، لكنه لن يخاطر بعلاقته مع الصين التي توفر له موارد استراتيجية طويلة الأمد. وفي حين تقدم واشنطن مكاسب قصيرة الأجل لموسكو، تقدم بكين ضمانات استراتيجية شاملة تجعل “خطة كيسنجر المعكوسة” مقامرة محفوفة بالمخاطر.