story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل يدعو العروي إلى “قطيعة مع التراث”؟

ص ص

ما زال البعض يتكلم عن دعوة عبد الله العروي إلى “القطيعة مع التراث”، دون توقف عند معنى “القطيعة” التي يقصدها العروي، ودون وعي بمعنى “التراث” في مرجعيته. ومما يثير الاستغراب أيضا أن يُستحضَر محمد عابد الجابري نقيضا للعروي في مسألة التراث، وكأن الأول كان أقرب إليه من الثاني.

فلنبدأ بمسألة “قطيعة العروي مع التراث”، والتي نرى أن العروي لا يدعو إليها بقدر ما يدعو إلى “قطيعة مع عقل بعينه في التراث”. وهناك فرق بين العمليتين. الأولى “قطيعة مطلقة” تشمل كل ما له علاقة بالتراث بما في ذلك العناصر الوجدانية والإيديولوجية والثقافية، وبما في ذلك الفضاءات الخاصة للإنسان حيث يعمِل عقولا أخرى غير “عقله الواقعي الملموس والموضوعي والتاريخي”.

أما الثانية، أي “القطيعة مع عقل في التراث”، فهي قطيعة مع “عقل” يحاول إخضاع كل تفكير مهما كان ماديا وواقعيا للمطلق، كما يعمل من جهة ثانية على إخضاع المطلق ذاته لعقل ليست المطلقات من اختصاصه المحدود. يقف العروي إذن، لا على النقيض من الإيمان كتفكير ميتافيزيقي أو كوجدان خاص، وإنما على النقيض من إخضاع الإيمان للقوالب الكلامية. هذا الإخضاع حال دون استفادة العقل الإسلامي من المنطق الأرسطي، وبالتالي من تطوره إلى منطق رياضي (من الرياضيات)، كذا إلى منطق تجريبي (فرنسيس بيكون) وجدلي (فريدريك هيجل)، ثم مادي جدلي فيما بعد (كارل ماركس). هكذا يقول العروي، وهو يتحدث عن تقدم العقل لفهم الواقع لا للتمرد على الوجدان. (انظر “مفهوم العقل”).

ولو دعا العروي إلى “قطيعة مطلقة مع التراث” لما دعا إلى استثمار الجدل الوجداني عند الحارث المحاسبي لتأسيس جدل اجتماعي (انظر “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”)، ولما قال بأهمية المسجد كفضاء خاص إلى جانب مجالين آخرين هما البرلمان والمختبر (انظر تعقيبه على ندوة تدارست فكره بالدار البيضاء)، ولما بذل جهدا مهما ومكتنزا لدراسة الفقه والعقيدة والتصوف في تاريخها ثم في بنيتها الداخلية أيضا (انظر “السنة والإصلاح”).

ليست “القطيعة مع التراث” من فكر العروي، بل أنتجها سياق خاص أصبح فيه العروي رغم أنفه جزءا من جوقة مصطنعة “إسلامي-علماني”. والعروي فوقهما معا، إشكاليته غير إشكاليتهما معا، كيف تتحقق مصلحة الدولة في التاريخ؟ وكيف تمتلك الدولة “عقلها المادي الجدلي” للتفكير في قضاياها ومصالحها الاستراتيجية، وتدبير مشاكلها الآنية؟ وكيف تغني هذه الدولة التفكير والتعبير لما يخدم تقدمها في التاريخ؟ هذه هي إشكالية العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”.

أما الفرق بين العروي والجابري فليس في “طبيعة العلاقة المعرفية لكل منهما بالتراث”، فهما معا يعملان فيه الدراسة البنيوية، والنقدين التاريخي والإيديولوجي. قد يتفوق أحدهما على الآخر في التفاصيل (الجابري) أو في تحديد الجوهري منها (العروي)؛ إلا أنهما معا يُقبِلان على التراث بوعي نقدي، فيدعوان إلى “قطيعة معرفية” وامتلاك “ثقافي وإيديولوجي” لا يلغي الجوانب الوجدانية في التراث (وهنا ننبه: الجابري ليس ضد العرفان في الإيمان، بل ضد “العقل العرفاني” كمرجع في فهم الواقع وتفسيره).

هل قرأنا “العروي”؟

هذا سؤال مطروح على من يرددون كل مرة: “العروي يدعو إلى القطيعة مع التراث”؟