هل دفع الخليجيون جزيتنا؟

دعونا نسجّل بداية أن جولة ترامب في منطقة الخليج العربي كانت تجسيدا لوجه قبيح وانقلاب فجّ في أعراف السياسة الدولية، حيث يجري التعامل مع الحلفاء بوصفهم ممولين لا شركاء، ومع المصالح كسلعة تباع وتشترى في المزاد العلني.
لقد ظهر ترامب، في محطات جولته، كسمسار لا كرئيس دولة، يلوّح بعقود الأسلحة، ويبتز في مقابلها المواقف، ويتحدث عن «الحب» و«الصداقة» من بوابة التحويلات البنكية والصفقات الباذخة ومن قلب القواعد العسكرية.
وفي خلفية المشهد، تطفو قصة الطائرة الفاخرة التي أهديت له من طرف قطر، لتجسّد تداخل المصالح الشخصية بالدبلوماسية الرسمية، وتجعل من الجولة مثالا صارخا على إفساد المال للسياسة وتحويلها إلى امتداد لمصالح الأفراد ونزوات الرأسماليين.
في المقابل، لابد من الاعتراف ألا شيء أكثر بلاغة من الصورة: رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الرجل الأقوى في النظام العالمي، يحلّ ضيفا على ثلاث عواصم خليجية، واحدة تلو الأخرى، دون أن يكلّف نفسه زيارة أية عاصمة عربية أخرى، لا في شمال إفريقيا ولا في مشرق العرب المنكسر.
في سلوك سياسي بهذا القدر من الرمزية، لم يكن دونالد ترامب، المعروف بوضوحه الخالي من التجميل، يوجّه رسائل سياسية فقط، بل كان يرسم خريطة جديدة للوزن العربي في ميزان القوة الأميركي، وإعلانا ضمنيا بأن منطقة الخليج، بما فيها السعودية والإمارات وقطر، صارت هي مركز الثقل الجديد في النظام العربي، بما أنها الوحيدة القادرة على الدفع، فيما باتت دول مثل مصر وسوريا والعراق إما غارقة في أزماتها أو فقدت جاذبيتها كحليف موثوق، أو كشريك اقتصادي قابل للاستثمار.
انهيار النظام السوري وتحوّل دمشق إلى عاصمة منهكة سياسيا وميدانا لصراعات دولية، وانكفاء مصر على أزماتها الداخلية وتراجع وزنها الإقليمي، وانشغال العراق بتوازناته الداخلية الهشة، واهتمام المغرب الخاص بحسم ملف وحدته الترابية؛ كل ذلك جعل من دول الخليج مراكز استقطاب سياسي واقتصادي ودبلوماسي. بل إن بعضها، كقطر والإمارات، تجاوز دور الملاذ المالي، ليصبح مركزا صانعا للرأي، وللسياسة، وللأجندات الإقليمية والدولية.
وفي ظل التراجع الشامل لدول المنطقة ومعاناة جلها من أزمات اقتصادية، وحدها دول الخليج اليوم قادرة على دفع “الجزية الحديثة” التي يطلبها ترامب صراحة: صفقات ضخمة، واستثمارات هائلة، تموضع واضح في المحور الأميركي.
لكن هل المال وحده يفسر هذا التموقع؟ الجواب لا.
إن دول الخليج، رغم كل ما يُقال عنها من تبعية للولايات المتحدة الأمريكية، فهمت اللعبة الكبرى: التموضع الجيوسياسي لا يتحقق فقط بقوة الجغرافيا أو عدد السكان، بل بالمرونة، وبالتحالفات الذكية، وبالاندماج الإقليمي، وبالاستثمار في القوة الناعمة، وبقراءة متقدمة للتحولات الدولية.
لقد تحوّلت الإمارات، على سبيل المثال، إلى مركز إقليمي لإعادة التصدير، والدبلوماسية متعددة المسارات. كما صارت السعودية قوة إقليمية طموحة تستثمر في الثقافة والترفيه لإعادة تشكيل صورتها الدولية. بينما تستخدم قطر دبلوماسية الوساطة والإعلام لتحتل مواقع مؤثرة.
في مقابل ذلك، تبدو منطقة شمال إفريقيا، كمنطقة بلا خطاب جيوسياسي واضح، أو مشروع إقليمي قادر على جذب الانتباه الأميركي الجديد.
مصر منهمكة في الداخل، وليبيا منقسمة ومضطربة، والجزائر غارقة في صراعاتها العدمية، وتونس في دوامة سياسية واقتصادية، والمغرب رغم ما حققه في ملف الصحراء من نجاحات، لم يتمكن بعد من بناء موقع جيواستراتيجي واضح في المعادلة الأميركية الجديدة تجاه العالم، في انتظار ما ستسفر عنه المبادرة الأطلسية.
المشكلة هنا لا تتعلق فقط بمكانة دبلوماسية، بل بمصير استراتيجي. ففي ظل تحوّل الخليج إلى مركز القرار العربي، يُطرح علينا السؤال: هل ما زالت واشنطن تنظر إلى شمال إفريقيا كجزء من المجال العربي التقليدي، أم أنها باتت تضعه ضمن مربع إفريقيا المؤجل حسم مصيرها إلى حين؟ وهل نحن معنيون، كمغاربة، بالضمانات الأمنية والصفقات السياسية التي تؤمنها واشنطن لحلفائها في الخليج؟ وماذا بقي من مرحلة دعوتنا للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي ومشاركتنا في القمم التي عٌقدت على هامش زيارة ترامب السابقة للمنطقة في 2017؟
والسؤال الأهم: ما الذي يجب فعله إذن؟
إن أول الدروس المستخلصة من جولة ترامب هو ضرورة التخلص من عقدة الاستعلاء إزاء دول الخليج.
لم يعد مقبولا في زمن الواقعية السياسية أن ننظر إلى الإمارات وقطر والسعودية ك”مشيخات نفطية” تدفع لتصمت، أو كأنها تجمعات قبلية بلا مشروع ولا تصوّر ولا رؤية للعالم من حولها.
أعتقد أن علينا تجاوز هذه الأفكار المسبقة والمتكلّسة. هذه دول بنت نماذجها، وحدّدت أهدافها، وتفاوضت على مكانها في العالم الجديد، انطلاقا من إمكانياتها ومما يحيط بها من تهديدات ومخاطر. وبمحدودية ديمغرافيتها، استطاعت أن تفعل ما لم تفعله دول بحجم مصر ذات المئة مليون، والتي نلاحظ اليوم حجم الفراغ الذي خلّفه تراجع دورها الإقليمي.
ثانيا، يجب على دول شمال إفريقيا، وفي مقدمتها الجزائر، أن تعيد التفكير في استراتيجيات تموقعها، وأن تفهم أن الحدّ الأدنى من الاندماج الإقليمي الذي تعتبر منظمة مجلس التعاون الخليجي أبرز تجلياته، ضروري لتحقيق أي تموقع مفيد في الخريطة العالمية.
لا يكفي أن نكرر، نحن دول شمال إفريقيا، خطابنا عن الاستقرار السياسي أو القرب الجغرافي من أوروبا.
في عالم ترامب وما بعده، المطلوب هو القوة القابلة للتفاوض: موقع استراتيجي داخل منظومة لها رؤية وأهداف واضحة، وقدرة على المناورة، وعرض سياسي واقتصادي قابل للتصدير.
“ماذا تملك دول منطقتنا لتهديه للولي الصالح ترامب حتى يفيض عليها بعض من بركاته؟”، تساءل صديقي المقيم في إحدى دول الجوار المغاربي أثناء دردشة جمعتنا.
ولعل السؤال المفصلي الذي تطرحه جولة ترامب الأخيرة: هل نحن مستعدون لنكون جزءا من الصفقة الكونية الجديدة؟ هل نملك مشروعا قابلا للعرض على طاولة الكبار؟ أم أننا سنكتفي، في أحسن الأحوال، بلعب دور التابع في الحلف الغربي، بينما تتشكل التوازنات الجديدة في مكان آخر؟
إن جولة ترامب إلى الخليج لم تكن إعلانا عن موقع الصدارة الخليجي في الخارطة الأميركية فقط، بل كانت في الوقت نفسه صفعة ناعمة لبقية الدول التي ما تزال تعتقد أن الجغرافيا والتاريخ والديمغرافيا تكفي لمنحها وزنا استراتيجيا.
في النهاية، لا يبقى سوى أن نطرح السؤال كما هو، دون مواربة ولا تورية: هل دفع الخليجيون جزيتنا؟
الأرجح أنهم فعلوا، لكن لأنفسهم، وبشروطهم، ومن أجل موقع متقدّم على مائدة الإمبراطورية. أما نحن، فبقينا هناك، نراقب المأدبة من بعيد، ونتساءل.