المغامرة الماكرونية
خلال الأيام القليلة الماضية، شهدت القارة العجوز إجراء الانتخابات الأوروبية التي ستشكل البرلمان الأوروبي. خلال هذه الانتخابات، لم يحصل أي تغيير على الأغلبية الحاكمة التي تترأسها أورسولا فون دير لاين. لكن الرابح الأكبر في ليلة الانتخابات هو الأحزاب اليمينية التي عرفت توهجا في نتائجها في دول أوروبية مختلفة. ويبقى أكبر الرابحين الائتلاف اليميني في فرنسا برئاسة جوردان بارديلا ذو الثمانية وعشرين عاما، حيث اكتسح الانتخابات في فرنسا بنسبة تتجاوز سقف الثلاثين بالمائة، وهي أكبر حصة لحزب فرنسي في الانتخابات الأوروبية منذ بدء اجراءها، وبنسبة تتجاوز ضعف ما حصل عليه حزب الأغلبية الحاكمة في فرنسا.
كرد فعل على هذا الاكتساح اليميني في فرنسا، خرج رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون في اليوم الموالي ليعلن للفرنسيين والعالم حله للبرلمان الفرنسي وإجراء انتخابات برلمانية سابقة لأوانها نهاية شهر يونيو الحالي. هذه أول مرة في تاريخ فرنسا يقوم فيها رئيس الجمهورية بحل البرلمان بعد هزيمة انتخابية (مقارنة بحل البرلمان من قبل في عهد دوغول وشيراك). لكن، هل كان الرئيس ماكرون حكيما في هذه الخطوة أم أنها تنم عن مراهقة سياسية لزعيم سياسي وحد الفرنسيين ضده في عدم رضاهم عن أدائه؟
أولا، هذه الخطوة تذكرني بما قام به الوزير الأول البريطاني السابق ديفيد كامرون سنة 2016 عندما دعا إلى استفتاء حول مصير بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، معتقدا أن الفوز سيكون لصالح البقاء داخل كنف الاتحاد الأوروبي. لكن النتائج كانت عكسية وخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع ما كلف ذلك للبريطانيين من تقهقر لمستواهم المعيشي بعد خروجهم من الاتحاد. فهل ماكرون يجر البلاد نحو مصير قد يكون سلبيا لفرنسا؟
ثانيا، سطوع نجم ماكرون جاء نتيجة الشرخ الكبير بين الأحزاب التقليدية الفرنسية، خصوصا بعد سنوات ساركوزي وهولوند، وليس لقوة برنامجه النتخابي أو مشروعه السياسي. ثم فرض ماكرون على الفرنسيين الاختيار بينه وبين ما وسمه بخطر اليمين برئاسة لوبين. لذلك فمن المحتمل أن خطوة ماكرون بحل البرلمان هي فرصة أخرى لفرض الاختيار على الفرنسيين بينه وبين اليمين. لكن ما لا يريد ماكرون الاعتراف به هو أن الكثير من الفرنسيين لم يعودوا يميزون بين سياساته وسياسات اليمين، خصوصا بعد تمريره لقانون الهجرة المثير للجدل. كما أنه لا يريد الإقرار بأن مستوى الرضا عنه نزل إلى مستويات تاريخية.
ماكرون أمام احتمالين: الأول هو أن يحكم إلى جانب التجمع الوطني اليميني والجمهوريين وبذلك يتقاسم مسؤوليات الحكم مع أحزاب أخرى، وهو ما قد لا يخدم مصالح حزب التجمع الوطني.
الثاني، هو أن تكون الرئاسة في يد حزب ماكرون وتكون الحكومة مشكلة من حزب آخر، وهذا السيناريو يخدم أكثر مصالح حزب الوزير الأول (الذي من المحتمل جدا أن يكون هو جوردان بارديلا).
ثالثا، هذا التجاذب بين أحزاب اليمين والوسط يمكن أن تعطي وقتا أكبر لأحزاب اليسار من أجل توحيد الصفوف والاشتغال على تحضير برنامج يكون بديلا حيويا لأحزاب اليمين في انتخابات الرئاسة في 2027. وبالتالي الاستفادة من هذا التطاحن، كما هو الحال هذه الأيام في بريطانيا التي يتوقع فيها فوز حزب العمال اليساري بعد الصراع الطاحن داخل حزب الجمهوريين في بريطانيا.
أخيرا، هذه الخطوة من ماكرون تأتي على بعد شهر تقريبا من إجراء الألعاب الأولمبية في باريس نهاية شهر يوليوز. مما يعني أن ماكرون لم يفكر في أي شيء آخر إلا نجاة حياته السياسية، دونما أي اعتبار لما قد يخلفه ذلك من آثار سلبية على الفضاء السياسي الفرنسي، على الشعب الفرنسي، وعلى الدول التي لازالت تعاني من التأثير الضخم لفرنسا في شؤونها الداخلية.