هل تغزو واشنطن لاهاي لأجل نتنياهو؟
وإن كان البعضُ يعتبره قراراً لا يساوي الحِبْر الذي كُتب به، متماهياً مع التمنّي الإسرائيلي، يبقى إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير حربه المُقال يؤآف غالانت، تاريخياً وغير مسبوق.
مباشرة بعد إعلان القرار، الذي اعتبر أن هناك “أسبابا منطقية” للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، وأن “هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات على السكان المدنيين”، دخلت إسرائيل في حالة من الهيجان والغوغائية والهستيريا الكاشفة لطبيعة هذه الدولة العُصابية والعِصابية.
لأول مرة يجد حامل أرفع صفة حكومية في دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسه في مواجهة العدالة الدولية ومطلوبا للاعتقال، ومطارداً قانونياً وأخلاقيا نظير جرائم ترتكب منذ أكثر من عام في غزة، وهي امتداد لجرائم مستمرة منذ أكثر من 76 عاما ضد الفلسطينيين. كما أن مذكرتيْ الاعتقال، بالإضافة إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام العدل الدولية، ستبقى أول محاولة جديّة لمحاسبة إسرائيل قانونياً على المستوى الدولي، بعد عقود حظيت خلالها بما يشبه الحصانة.
القرار نقل الموقف من مساحات السياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية إلى مجال القانون، ولن يكون مفيدا بعد اليوم مثل تعليق الرئيس الأميركي جو بايدن المتهافت، الذي قال إنه “لا يجب المساواة بين إسرائيل وحماس”. نحن الآن أمام أُطُرٍ جديدة مرتبطة بتعاطي الدول التي تقول إنها ديمقراطية مع وقائع قانونية، وكيف يمكن التعامل مع متهمين صدر بحقهما أوامر اعتقال من أهم محكمة دولية، وطبيعة العلاقة مع دولةٍ تُحاكم بتهمة الإبادة الجماعية.
منذ الخميس 21 نونبر 2024، أصبح نتنياهو وغالانت معرّضين لاحتمال الاعتقال في 124 دولة هي الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، وسيكونان ملزمين بالتفكير ملياً قبل أي رحلة إلى الخارج، ولن يقتصر الأمر على وجهتهما النهائية فحسب، وإنما النظر في أي مطار قد تحطّ فيه أي طائرة تقلّهما اضطرارياً. قرار المحكمة سيؤثر في جوانب أمنية وسياسية وتجارية، وغيرها، وبمفاعيل أخلاقية غير قابلة للترميم، على الأقل بالنسبة للذين لا يزالون يؤمنون بالعدالة الدولية.
ولإدراكهم ثقل هذه الحقائق المستجدّة، لم يُوفّر قادة إسرائيل ومسؤولوها من قاموس السّباب والشتائم شيئا لمهاجمة المحكمة الجنائية الدولية، ومارسوا تهويلا وتحاملا ضد قضاتها، واستدعوا بكل دناءة أحداثا من التاريخ (تشبيه نتنياهو مثلا لقرار المحكمة بقضية ألفريد درايفوس) لا تتّسق مع منطق الدفاع عن مجرميْ حربٍ تسبّبا في مقتل أكثر من 46 ألف إنسان في عام تقريباً، بينهم 18 ألف طفلٍ، وإصابة أكثر من 100 ألف، في “هولوكوست العصر الحديث”.
إن ما جرى ضمن حربِ تحطيم صورة الصهيونية التي استغلّت مظلومية تاريخية لليهود لممارسة فظاعات جديدة، محميّة بسردياتٍ نافذةٍ وحاكمة على العقل الغربي المصاب بـ”متلازمة عقدة الذنب” أمام اليهودي.
“واحة الديمقراطية (المزعومة) في صحراء الشرق الأوسط” تلقّت واحدة من أقسى الضربات في تاريخها. ولا يُقاس الأمر بإمكان تنفيذ مذكرتيْ الاعتقال من عدمها، بل بحقيقة تجريد إسرائيل من جزءٍ من “أسلحةٍ رمزية” لتأبيد تفوّقٍ وتحكم في الوعي الإنساني، خاصة الغربي، يسوّق كذباً أنها الضحية، وأنها المُستَهدَفة، باعتبارها وريثة مظْلَمة تاريخية جراء ما فعلته دول غربية باليهود.
هذه الوضعية الانتهازية انتهت. وإسرائيل اليوم تُحاكم أمام أكبر مرجعيتين قضائيتين في العالم: محكمة العدل الدولية التي تحاكم دولة الاحتلال بتهمة الإبادة الجماعية بناء على شكوى جنوب أفريقيا، والمحكمة الجنائية الدولية التي تطلب اعتقال نتنياهو وغالانت (ولربما آخرين) للمحاكمة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل والتمهيد لاتهامهما بارتكاب الإبادة الجماعية بالحديث عن “وجود محاولة جدية لهدم قسم جديّ من الحياة المدنية في غزة”.
طوفان الأقصى، ورغم كل المآسي التي لا يجب التنقيص من أهوالها، وضع دولة الاحتلال الإسرائيلي في حالة مواجهة مع الضمير الإنساني. والحرب الأساس إنْ كانت تُخاضُ على الأرض بمواجهة الاحتلال، فإنها تنتقل وتنتزع مساحات جديدة في معركة الوعي لصالح حقوق الفلسطينيين، إلى حدّ أن يعتبر المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو أن “إصدار مذكرات الاعتقال يمثل لحظة تحوّل في القضية الفلسطينية”.
ولهذا تحديدا كانت الردود التي أعقبت قرار المحكمة، في الدول الغربية أساسا، تظهر تزحزحا ملحوظا، بعضه قد تتم فرملته بمفاعيل سياسية برغماتية مقيتة تستطيع التلاعب بالعدالة وتطبيقاتها، لكنها لا تُخفي بداية تحلّل وتخلّصٍ من قيود الصهيونية وإرهابها للضمير الإنساني.
وهذا التململ والتبرّم عن إسرائيل بدا جليّا مؤخرا، مثلا، في هولندا عقب المواجهات التي افتعلها مشجعو فريق مكابي تل أبيب بسلوكهم العنصري والإجرامي، والذي دعمه وغطّاه سياسيون ومسؤولون في أمستردام، قبل أن يستعيد كثيرون “عقلهم” من بين يديْ الدعاية الإسرائيلية، وينفضوا أيديهم من دعم العنصريين. ووحدها أنظمة عربية لا يزال بعضها يمشي على بطنه، بخلاف التاريخ والضمير الإنساني، طلبا لسلامٍ مع السفّاح.
إصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وغالانت تحطيمٌ لصورة النظام القضائي في إسرائيل، المتحيّز والمتماهي مع أفعال مجرمي الحرب، والمبيّض للقرارات ضد الفلسطينيين، والذي يصبغ الخيارات السياسية الاحتلالية العنصرية بصبغة القانون. والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية قالتا، بلا لبس، إنّ ولايتهما القضائية الدولية ناجزةٌ في الأراضي المحتلة، وأكدتا ضمناً أن النظام القضائي الإسرائيلي لا يوفّر ضمانات المحاكمات التي تحقّق العدالة للضحايا الفلسطينيين.
وإنْ صار النظام القضائي الإسرائيلي مطعونا في أهليته، مع ما يعنيه من هدم لصورة “الدولة الديمقراطية”، وبعد الشلل في مجلس الأمن المخوّل بإقامة محكمة عينية وخاصة ( كالمحكمة التي أنشأها المجلس في 2005 للنظر في ملابسات اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري)، فتحت الجنائية الدولية الطريق لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين، في “أخطر لحظة انحدار قانوني في تاريخ إسرائيل”، وفق تعبير الأستاذ المحاضر في القانون الدولي في جامعة تل أبيب إلياف ليبليخ، الذي كتب في “هآرتس” بعد صدور القرار.
إصدار مذكرة اعتقال بحقّ نتنياهو وغالانت بمفاعيل الترميم الجزئي لصورة “المجتمع الدولي والأسرة الدولية” ( من أوجدَ هذه التعابير العاطفية أكثر من اللزوم؟؟)، بعد أن عجز العالم عن وقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وتواطأ كثيرٌ منه لتسليحها، وبعضُه في تمريرها، وتماهى آخرون مع أكاذيب الاحتلال في تبريرها.
مذكرات الاعتقال صرخةٌ من بقيّة عقلٍ وضمير في هذا العالم إزاء هذه الحرب الوحشية وغير المسبوقة على الإنسان. والقرار ردّ اعتبار للقانون الدولي الجنائي والمحاكم الدولية.
لكن، ورغم ذلك، ولتبقى الأرجل على الأرض حتى لا تأخذنا نشوة الشعور بانتصار روح القانون الدولي، يتكلّف مخبولون بتذكيرنا أنه لا يزال في العالم مجانين ومجرمون بما يكفي لتخجل الإنسانية من نفسها، ونحن نرصد مواقف دول وفاعلين دوليين لم يغادروا منطقة دعم مجرمي الحرب والبقاء رهائن لسطوة الصهيونية.
بل إن قلّّة الحياء الأمريكية، المعهودة على كل حال، والمستسلمة لـ”الروح الصهيونية الشريرة”، دفعت مناصري قتل أطفال غزة إلى التفكير في غزو دولة حليفة وعضو في حلف شمال الأطلسي، حين امتدت تهديدات عدد كبير من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين إلى حدّ التلويح باستخدام “قانون غزو لاهاي” ضد الدول التي قد تنفذ أوامر المحكمة.
ويرتبط “قانون غزو لاهاي” باسم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، الذي وقع في 2002 على قانون “حماية العسكريين الأميركيين”، والذي يعطي واشنطن صلاحية استخدام القوة العسكرية لتحرير أي أميركي أو مواطن من دولة حليفة محتجز لدى المحكمة الجنائية الدولية التي تتخذ من لاهاي بدولة هولندا مقرا لها.
كلام صادم وغير أخلاقي ومجنون، لكنه يصدر عن أناس يؤثّرون في السياسة الدولية وقادرون على الإلزام بإرهابهم السياسي والدبلوماسي، ما يشجّع أمثال السلطوي الشعبوي فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، على مساندة رئيس الوزراء الإسرائيلي المطلوب للاعتقال بجرائم الحرب بدعوته لزيارة بودابست، في تحدٍّ لقرار المحكمة. وفعلاً، إن “الطيور على أشكالها تقع”، و”قلوب المجرمين عند بعض”.
في المقابل، ولحسن الحظ، لا يوجد في العالم غربٌ فقط، ولا في الغرب أمريكا وأوربان فحسب، لهذا يكون كان ضروريا التنويه بمواقف دول، كأيرلندا وبلجيكا وكندا وإيطاليا وهولندا، عبّرت عن احترامها لقرار المحكمة، وبعضها قال إن نتنياهو سيكون هدفاً للاعتقال إن وطئت قدماه أراضيها.
قصارى القول
إن كان الجرح الفلسطيني نازفاً إلى أقصى حدّ، والمقتلة شنيعة، والخسائر فادحة، فإن الاحتلال الإسرائيلي، المستمر في حرب الإبادة، يخسر وسيتكبّد كثيرا وهو يتدحرج نحو الخراب. وإنْ كانت إسرائيل “قصةً تُروى” بكثير من البكائية والفجائعية المنحدرة من تاريخ الهولوكست الدموي، ووافقت ورافقت سياقات انتهت بها إلى احتلال إحلالي استيطاني، فقد بدأ رصيد كذبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” تتفكّك بصمود الشعب الذي أكد أن صاحب الحق موجود، وأنه متمسك بأرضه التي أعطاها “من لا يملك لمن لا يستحق”. هنا جوهر القصة وبداية معاناة دولةٍ خارجة عن القانون الدولي أمام الضمير الإنساني. ثم، ألم يتوعّد يحيى السنوار إسرائيل، قبل طوفان الأقصى، بقوله: “سنضعكم في مواجهة مع الضمير الإنساني”.