story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل المغاربة علمانيون؟

ص ص

أثارت تصريحات لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، اعتبر فيها المغاربة “علمانيون”، جدلا واسعا. جاء ذلك في معرض حديث الوزير أمام البرلمان عن مضامين حوار غير معلن، جرى بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي، إبان زيارة الأخير رفقة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المغرب نهاية أكتوبر الماضي، حول العلاقة بين الدين والعلمانية في السياق الفرنسي، في إطار مباحثات حول ملف التعاون بين البلدين في مجال التأطير الديني للجالية المغربية بفرنسا، والذي تدبره فرنسا في السنوات الأخيرة وفق منهجية لم ترق الجانب المغربي.

الوزير التوفيق كشف فحوى الحوار مع الوزير الفرنسي بقوله: “خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، كان عندي لقاء مع وزير الداخلية، لم يعلن عنه في الإعلام، وتناقشنا حول عدة أمور”. وأضاف المسؤول الحكومي موضحا: “هم مقتنعون بأن الإسلام المغربي المعتدل في صالح الجميع؛ ولكنهم في سياق داخلي معقد”، وزاد مبينا: “قال لي (وزير الداخلية الفرنسي): العلمانية تصدمكم، فقلت له: لا. فتساءل: كيف أقول لا؟ فقلت له: لأننا علمانيون”، وتابع مفسرا: “قلت له: ليس لدينا نصوص 1905؛ ولكن من أراد أي شيء يفعله، لأنه لا إكراه في الدين. فظل فاتحا فاه”، في إشارة إلى استغراب الوزير الفرنسي من جواب الوزير التوفيق.

تصريحات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحدثت ضجة لدى الرأي العام، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا العبارة التي وصف فيها المغاربة بأنهم “علمانيون”، وهو الذي ما فتئ يؤكد مرارا أن الدولة المغربية إسلامية، بل ويزعم أن “الخلافة قائمة في المغرب في شكل إمارة المؤمنين”، ما يطرح التساؤل التالي: كيف تكون الدولة إسلامية وملكها أمير للمؤمنين بينما مواطنوها، أي المغاربة، علمانيون؟ هل يحتاج المغرب إلى العلمانية؟ وأي شكل منها؟ أم أننا أمام خطاب سياسي لوزير قد يوظف العلمانية مثلما يوظف الدين حسب السياقات والمصالح والمخاطبين؟
شرح الغامضات

تصريحات التوفيق أمام مجلس النواب يوم الاثنين، أثارت جدلا استدعى منه مزيدا من التوضيح والتدقيق مرتين على الأقل: التوضيح الأول كان في شكل تصريح للصحافة، قال فيه إن “مخاطبي الوزير الفرنسي هو الذي قال لي ونحن نتحدث عن الإسلام في فرنسا: “أتفهم أنكم تستغربون لعلمانيتنا” Je comprends que notre laïcité vous étonne، فأجبته: نفهم علمانيتكم، ولا نستغرب لها، لأننا علمانيون.

بمعنى أننا نعيش حرية التدين، إذ لا إكراه في الدين في الإسلام، فالدين يمارس على أساس الحرية”. ومضى التوفيق موضحا ما جرى بينه وبين الوزير الفرنسي “الفرق بيننا وبينكم (يقصد بين المغرب وفرنسا) أمران: الأول، أنه ليست لدينا قوانين تفرض الفصل بين الدولة والدين من حيث المؤسسات، كما تنص على ذلك عندكم التشريعات الفرنسية لسنة 1905، والأمر الثاني أن نظام إمارة المؤمنين عندنا يقوم على الاستجابة لحاجيات الناس حسب الالتزام في البيعة بالكليات الخمس؛ وأولاها حفظ الدين، فالدين هو الحاجة الأولى قبل الحاجات الأخرى التي تستجيب لها إمارة المؤمنين بكل لوازمها..

وحتى من منظور الديمقراطية فإن واجب الدولة أينما كانت هو أن تنصت للناس وتلبي رغباتهم بحسب الأولويات؛ ولكن الملابسات التاريخية هي التي تأتي بالفوارق بين البلدان على أساس تجاربها السالفة. ولعل هذا الفصل عندكم وعند غيركم (يخاطب الوزير الفرنسي) مجرد مرحلة تاريخية”.

التوضيح الثاني صدر عن الوزير التوفيق أمام لجنة الخارجية والدفاع الوطني والشؤون الإسلامية بمجلس المستشارين، الأربعاء الماضي، حيث أكد الوزير بعبارات أخرى ما يلي: “أخبرت وزير الداخلية الفرنسي، تفاعلا مع ما اعتبره استغرابا منا بنموذج الجمهورية اللائكي، أن هذا المفهوم يرتبط أساسا بالفلسفة السياسية والتاريخ، ولاسيما تاريخ فرنسا، ويناقش أربعة مرتكزات: الحرية، والعقل، والأخلاق أو السلوك الحسن، ثم المعنى”.

وأوضح التوفيق للوزير الفرنسي “قلت له أن المعنى هو توفير أجوبة بخصوص لماذا نعيش؟، وهذا يغيب عندكم في فرنسا؛ وبالتالي فصلتم الدين عن الدولة، ولكن لم يعد لديكم جواب رسمي (حول الخلاص).. ولا تتجاوبون مع المواطنين في احتياجاتهم الروحية”. وأبرز الوزير التوفيق، في سياق النقاش مع بعض المستشارين البرلمانيين، أن العلمانية ليست واحدة، وأوروبا بدورها ليست نموذجا موحدا في هذا الجانب، قائلا: “يكفي أن نعرف أن ضريبة الشؤون الدينية تقدر بالمليارات في ألمانيا، ودورها محوري في إصلاح الكنائس والمعالم الدينية…إلخ”.

وبشأن ما جرى بينه وبين الوزير الفرنسي أضاف “هكذا نشتغل في المغرب، وهو وفق تصور تظنون أنكم وحدكم تحتكرونه، وهو العقد le contrat. لكن في تصورنا نحن هو البيعة، وهي قادمة من البيع، أي نبيع الحاكم المشروعية، مقابل أن تقوم إمارة المؤمنين بحماية الملة والدين وأن تحمي الأمن والكرامة، وهي نفس الأسس؛ ولكن بطريقة أخرى”.

ومضى قائلا للبرلمانيين “لا معنى للدين بالإكراه، وحتى الله لا يريد ذلك. الدين التزام حر، والمغربي يمارس تدينه كيف يريد. ولا أحد يسائله”. ثم استدرك قائلا: “الأصل أن المغاربة متشبثون بدينهم، من صلاة وصيام وبقية الشعائر؛ وبالتالي لدينا ما لديكم وليس لديكم ما لدينا”، في عبارة يحتمل أنها كانت موجهة إلى وزير الداخلية الفرنسي في لقاء الطرفين.

سياق الكلام

كلام المسؤول الحكومي جاء في سياق الحديث عن الصعوبات التي يواجهها المغرب في التأطير الديني لجاليته بالدول الأوروبية، لافتا إلى أن التعامل مع الوضع “ليس سهلا”، وكشف عن صعوبات وربما تردد وتلكؤ أوربي في استقبال الوعاظ والمؤطرين الدينيين المغاربة، مشيرا إلى أن “طلب التأشيرات للمؤطرين الدينيين يبدأ قبل 4 أو 5 أشهر من شهر رمضان”، مؤكدا أن “هناك ظروفا صعبة، وتزداد صعوبة في أوروبا؛ نظرا للمخاض السياسي الداخلي الذي تعيشه”. وأشار التوفيق إلى أن وزارته تخصص اعتمادات مالية سنوية لمساعدة الجمعيات المهتمة بالتأطير الديني لمغاربة العالم في بلدان الإقامة، والتي بلغت السنة الجارية 96 مليون درهم، وهمت فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وكندا.

كما سجل أنه يجرى إيفاد بعثات من القراء والوعاظ والواعظات سنويا إلى بعض الدول لتأطير أفراد الجالية، حيث بلغ سنة 2024 نحو 372 مؤطرا موزعين على 9 دول، هي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والدنمارك والسويد وكندا، فضلا عن تزويد المساجد والمراكز الإسلامية التابعة للجالية بـ345 ألفا و796 مصحفا؛ بالإضافة إلى الكتب الدينية التي تصدرها الوزارة.

ومن المعلوم أن قضية إيفاد مؤطرين دينيين مغاربة إلى الدول الأوربية لإحياء صلاة التراويح في رمضان سبق وأن أثارت مشكلة بين البلدين في السابق. ففي مارس 2023، وفي سياق الأزمة السياسية بين المغرب وفرنسا حينها، ظهر أن هناك تردد فرنسي في استقبال مؤطرين ووعاظ مغاربة من أجل إحياء صلاة التراويح خلال شهر رمضان الفائت، وذلك على خلاف دول أوربية أخرى مثل اسبانيا وألمانيا وبلجيكا، وهو التردد الذي تجلى في تأخر القنصليات الفرنسية بالمغرب في إصدار التأشيرة للمعنيين بالأمر، ما دفع “مغرب أنتلجنس” إلى الحديث عن وجود امتناع فرنسي في الموضوع.

وقد تأكدت تلك القناعة، إثر تصريحات لوزير الأوقاف أحمد التوفيق، في يناير 2023 أمام البرلمان، عبر فيها عن خشيته من «التضييق على ايفاد المؤطرين الدينين كما يتبدى ذلك من بعض التوجهات الموجودة في بلدان أوربية». مبرزا في حينه أن «ما لا يعلمه الكثيرون هو ماذا نعاني في قضية تأشيرات رمضان فما بالك خارج رمضان». وهي تصريحات أفضت في النهاية إلى تدخل السفارة الفرنسية في الرباط، التي أكدت في بيان رسمي صدر في مارس 2023 بأنها وافقت على الاستجابة لكل طلبات التأشيرة لفائدة الوعاظ والأئمة والمؤطرين الدينيين المغاربة. وقد كشف ذلك عن وجود خلاف بين البلدين في الموضوع، انضاف إلى خلافات سياسية أخرى حينها.

وفي فبراير 2024، أثار رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، عبد الله بوانو، موضوع التأطير الديني لمغاربة فرنسا، وذلك ضمن سؤال كتابي وجهه إلى وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، مؤكدا أن دولة فرنسا شرعت مع بداية سنة 2024، في تنفيذ قرار وزير داخليتها، المتعلق بوقف استقدام الأئمة الأجانب، مشيرا إلى أن الأئمة المغاربة، من المعنيين والمستهدفين بهذا القرار. واعتبر البرلماني المذكور أن هذا القرار ينطوي على تضييق واضح على ممارسة الشعائر الإسلامية، وعلى التأطير الديني للمسلمين بفرنسا، ومنهم حوالي 900 ألف مغربي مقيم بهذه الدولة، وسينضاف إلى ما ستشكله بعض مقتضيات قانون الهجرة الجديد بفرنسا، من تضييق على هذه الفئة من المغاربة.

وتساءل بوانو عن الإجراءات التي ستتخذها الوزارة في تنسيق مع الجهات المعنية بفرنسا، لاستثناء الائمة المغاربة من قرار وزير داخلية فرنسا القاضي بوقف استقدام الأئمة الأجانب، وكذا الإجراءات التي ستتخذها لتأمين استفادة المغاربة المقيمين بفرنسا، من تأطير ديني يستجيب للنموذج المغربي القائم على الوسطية والاعتدال والتعايش والانفتاح والتسامح، وعن إمكانية التفكير في مراجعة القوانين والمساطر المعمول بها في التعامل مع مدارس البعثات الفرنسية بالمغرب.

في هذا السياق، ربما، يأتي النقاش الذي دار بين الوزير التوفيق ووزير الداخلية الفرنسي، على خلفية زيارة المصالحة التي قام بها ماكرون إلى المغرب في أكتوبر الماضي، وهو النقاش الذي أسّس لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، ومن المفترض أن يشمل كذلك التعاون في مجال التأطير الديني للجالية المغربية في فرنسا.

بعض المعطيات التي قدمها الوزير التوفيق يوم الاثنين الماضي أمام البرلمان، تفيد أن النقاش بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي ربما حقق الغرض منه أو يكاد، بدليل ما كشف عنه الوزير التوفيق خلال نفس الجلسة البرلمانية، حين أكد توصله في اليوم نفسه (أي الاثنين الماضي) برسالة من وزير الداخلية الفرنسي حول الموضوع، وقال: “أرسل لي رسالة توصلت بها اليوم، حتى نتواصل ونناقش مرة أخرى”، لافتا إلى أن الظروف ليست سهلة، وأقول لهم: نحن معكم، لأننا مع الاعتدال والحرية؛ ولكن ظروفهم ليست سهلة”. مشيرا إلى الضغوطات التي يمارسها صعود اليمين المتطرف في فرنسا وفي عدة دول أوربية، والذي يطالب بالتشدد في سياسات الهجرة.

لكن هذا السياق تم القفز عليه في الجدل الإعلامي والسياسي، نحو التركيز على جزء من تصريحات الوزير التوفيق، خصوصا تلك التي اعتبر فيها أن “المغاربة علمانيون”، وهي العبارة التي أثارت لغطا ولا تزال، إذ أحيت نقاشا طالما شغل المتنافسين في الساحة السياسية والفكرية بين العلمانية والدين، خصوصا في السنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس. وهو جدل نابع من المفارقة التالية: كيف لوزير الشؤون الإسلامية المنافح على ترسيخ إمارة المؤمنين، مؤسسة وقيما وأحكاما، أن يعتبر المغاربة علمانيون؟ وهل الملك في هذه الحالة سيكون أميرا للمؤمنين أم أميرا للعلمانيين؟ أم أننا أمام خطاب سياسي لوزير قد يوظف العلمانية مثلما يوظف الدين حسب السياقات والمصالح والمخاطبين؟

هل المغاربة علمانيون؟

يزعم الوزير التوفيق أن المغاربة علمانيون، لكن بأي معنى؟ من خلال الجدل الإعلامي حول تصريحات الوزير وتوضيحاته، برزت ثلاثة آراء: الأول، عبّر عنه رئيس حركة التوحيد والإصلاح، أوس رمّال، ويرى أن تصريحات الوزير يستفاد منها بأنه يقصد “حرية التدين” استنادا إلى المبدأ القرآني: “لا إكراه في الدين”. وهو الفهم الذي أكد عليه الوزير لاحقا في تصريحات وتوضيحات للصحافة في اليوم الثاني من تصريحه الأول أمام البرلمان.

لكن أوس رمّال استدرك بالقول “أما إذا كان يقصد أن الدولة المغربية علمانية، فإن الوزير ينسف الدولة من أصولها، كما ينسف مبرر وجود وزارة تسمى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وينسف حتى إمارة المؤمنين التي من المفترض أنه يدافع عنها”. واستنتج رئيس حركة التوحيد والإصلاح على أن ما نص عليه الدستور هو ما يعنيه أحمد التوفيق في تصريحه، لافتا إلى أنه “لا يتوقع من وزير مسؤول عن الشؤون الإسلامية في البلاد، أن يقول إننا دولة علمانية”، مؤكدا أن المقصود من قوله “نحن علمانيون” هو ما برّره بالإشارة إلى الآية القرآنية “لا إكراه في الدين”.

بالمقابل، يذهب رأي ثان إلى تأييد منطوق الكلام كما ورد على لسان الوزير التوفيق دون تأويل، واتخذ من كلامه مطية للدفاع عن سماه أكثر من واحد “علمانية مغربية متجذرة في المجتمع المغربي منذ القدم”. ففي تصور الباحث الأمازيغي عبد الله بوشطارت فإن الوزير “لا يقصد بالضرورة العلمانية كمفهوم تطور في السياق الأوربي، فالعلمانية هي نتاج أمازيغي خالص، مارسها الأمازيغ منذ القدم، سواء قبل وصول الإسلام أو بعده. لأن الأمازيغ دائما ما كانوا يفصلون بين الشأن الديني والشأن السياسي في حياتهم اليومية”. وعموما، بالنسبة إلى هذا الرأي فإن ما صرح به الوزير “ليس إعلانا عن تناقض مع الدين أو ثوابت الأمة، بل هو توصيف لواقع مغربي متأصل في ثقافته الاجتماعية والدينية، التي تجمع بين الإسلام المعتدل وبين المرونة في إدارة الشأن العام” كما ذهبت إلى ذلك الناشطة الأمازيغية أمينة ابن الشيخ.

أما الرأي الثالث فقد حاول التوفيق بين الرأيين الأول والثاني، حين اعتبر أن “العلمانية لا تعني الفصل بين الدولة والدين بشكل مطلق” يقول الباحث والروائي إدريس الكنبوري، مؤكدا أن التوفيق “يقصد أشياء أخرى غير هذا المفهوم، وهي أن المفهوم الثقافي والسوسيولوجي للعلمانية، ليس مرتبطا دائما بفصل الدين عن الدولة بل يمكن أن يعني أن المواطن يعيش حياته بشكل طبيعي ويمارس دينه بشكل عادي”. وأضاف الكنبوري في تصريحات صحافية أن “وزير الأوقاف لا يمكن أن يعني بالعلمانية فصل الدين عن الدولة، لكونه يعرف أنه في المغرب يوجد أمير المؤمنين”، مسجلا أنه “سبق للملك في 2015 أن قال إن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يجمع بين الدين وبين السياسة هو أمير المؤمنين، وبالتالي فالتوفيق لا يمكن أن يتجاوز هذا السقف”.

وبالمقابل، فإن التوفيق يريد، حسب الكنبوري، “توجيه رسالة دبلوماسية إلى فرنسا، بأن المغرب ليس دولة دينية”، مؤكدا أن كلام الوزير “موجه إلى فرنسا بشكل أساسي ولا أعتقد بأن هناك طريقة أفضل من هذه الطريقة للتعبير عن هذه الرسالة”، مبرزا أن “المفهوم السائد لدى الناس بخصوص العلمانية هو الذي أشعل كل هذا الجدل”.

بيد أن التأويل السياسي لكلام الوزير قد يفضي إلى قراءة أخرى، تزعم أننا أمام خطاب سياسي مزدوج، طالما عبّر عنه أكثر من مسؤول سياسي في الدولة، حين يتعلق الأمر بالعلاقة بين الدين والعلمانية، ويركز في هذا السياق على المخاطبين به، وحسب السياق والمصالح المتوخاة منهم. لو افترضنا أن التوفيق في سياق توجيه الخطاب إلى الداخل المغربي، سيبدو كلامه متناقضا مع موقعه كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، ومع الواقع الدستوري حيث الدولة المغربية إسلامية بقوة الواقع ونص الدستور، وحيث الملك أميرا للمؤمنين، يمارس صلاحيات دينية واسعة ارتكازا على تمثيل مادي للدين في الواقع، يتجسد في المؤسسات مثل المجالس العلمية والأوقاف والمساجد والزوايا وعشرات الهيئات المدنية التي لها حضور قوي في المجتمع.

أما إذ افترضنا أن الخطاب موجه للخارج، فرنسا مثلا، ففي هذه الحالة يكون المقصود من وراء الخطاب إيصال رسالة سياسية أو حل مشكل سياسي. وفي سياق كلام التوفيق للوزير الفرنسي، ثمة مشكلة تدبيرية وسياسية تتمثل في الخلاف حول التأطير الديني للجالية المغربية والجاليات المسلمة في فرنسا، البلد العلماني العتيد في أوربا، والذي يبدي، كدولة ومجتمع، حساسية شديدة اتجاه مسائل الدين، ناهيك عن أي دور ديني لدولة أجنبية فوق التراب الفرنسي مثل المغرب أو غيره من الدول العربية والإسلامية الأخرى، وهي حساسية تجلت في القرارات الأخيرة لوزير الداخلية الفرنسي التي قضت بمنع استقدام الأئمة والمؤطرين الدينيين من خارج فرنسا لتأطير ما تعتبرهم مسلمين فرنسيين.

في هذه الحالة نكون بدون شك أمام خطاب سياسي لوزير سياسي (التوفيق أو غيره) هدفه حل مشكلة سياسية، وليس بالضرورة يعكس الواقع، وإنما هدفه تجاوز مشكلة، وتحقيق هدف، وهو موقف ينشد تحقيق نتائج أكثر من أي شيء آخر، خصوصا في ظل سياق فرنسي وأوربي معاد للإسلام وللمسلمين، ويعاني من ظاهرة “الإسلاموفوبيا”.

ويبدو أن هذا الافتراض الثاني هو الأقرب إلى الواقع السياسي كما هو، خصوصا حينما نتأمل توضيحات الوزير التوفيق المتكررة، والتي يبدو أنه حاول من خلالها طمأنة الوزير الفرنسي فيما يخص خصائص النموذج المغربي، القائمة بدورها على الاعتداء والحرية، واحترام قوانين وتوازنات الداخل الفرنسي، وهو نموذج مغربي يراه التوفيق صالحا لفرنسا ولغيرها من الدول، ما يفسر طلب الارتفاع عليه، بما في ذلك من لدن دول تعتبر نفسها علمانية.