هل أوكرانيا فعلا ضحية؟ وما الذي لم يجرؤ زيلينسكي على قوله؟

لم تتجاوز المقابلة التي جمعت الرئيس دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عشر دقائق، لكنها تبدو في مآلاتها والنتائج المترتبة عنها وكأنها استغرقت وقتا طويلا، فقد شهدت توترا واضحا وتبادلا ليس للآراء وإنما للاتهامات، وكشفت عن تباين عميق في وجهات النظر بين الطرفين. فعلى الرغم من محاولة كلا الجانبين الظهور بموقف موحد أمام عدسات الإعلام، إلا أن الخلافات الجوهرية لم تكن خافية مما يجعل أوكرانيا في موقف حرج للغاية، حيث يبدو أنها فقدت جزءا من الدعم أو على الأقل تواجه إكراهات على المدى القريب جدا في الحفاظ على نفس مستوى التأييد الأمريكي على الأقل الذي كانت تحظى به سابقا.
ففي حديثه إلى زيلينسكي، وجه ترامب عبارات واضحة وصريحة لا تخلو من تهديد أنه في موقف ضعيف، ولا أوراق ضغط حقيقية بين يديه، ولم يعد يتمتع بنفوذ يتيح له فرض شروطه، وأن عليه أن يظهر قدرا أكبر من الامتنان. لم يكن أحد يتوقع أن تصل العلاقة بين البلدين إلى هذه الدرجة من التفاوت. فقد كانت هذه العبارات بمثابة إعلان صريح بأن أوكرانيا في موقف حساس للغاية باعتمادها الكلي على دعم الولايات المتحدة، ويكشف بالتالي عن تراجع قدرتها على المناورة السياسية في ظل التطورات الجيوسياسية الراهنة.
وقد ساد تصور عام على مدار السنوات الأربع الماضية، بأن أوكرانيا والولايات المتحدة شريكان متساويان في تحالف استراتيجي يهدف إلى مواجهة التهديد الروسي الذي ينظر إليه باعتباره “الشر المطلق”. وكان هذا الخطاب السائد يعكس نوعا من التوازن الافتراضي بين الطرفين، حيث تم تصوير أوكرانيا كحليف مستقل يقف جنبا إلى جنب مع واشنطن في معركتها الجيوسياسية. لكن طرأ تغيير جوهري على هذا التصور بعودة ترامب الذي حرص على إعادة تعريف طبيعة العلاقة بوضوح، مسلطا الضوء على من هو صاحب القرار الحقيقي ومن هي الدولة التي تعتمد بشكل أساسي على دعم الآخر. ووفقا لهذا النهج، لم تعد أوكرانيا تعامل كشريك متكافئ، بل كدولة تدين بالكثير للولايات المتحدة، وعليها أن تدرك موقعها في ميزان القوى.
ولم يكن هذا الأسلوب مقتصرا على التعامل مع أوكرانيا فحسب، بل امتد أيضا إلى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة مثل فرنسا وبريطانيا. فعند زيارة كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، لم يصل ترامب إلى حد التقليل العلني من شأنهما كما فعل مع أوكرانيا، لكنه لم يتردد في التفاوض علنا وأمام عدسات الكاميرات. كان ذلك خروجا واضحا عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية التي تبنى فيها العلاقات والتفاهمات خلال جلسات مغلقة حيث يتم تعزيز الثقة بشكل تدريجي.
لكن بالنسبة لترامب، هذه الطريقة البطيئة ليست فعالة بما يكفي. فهو يفضل الاستعراض العلني، حيث يرى أن أسرع وسيلة لفرض رؤيته السياسية وتأكيد موقفه هي التفاوض المباشر والمكشوف أمام الإعلام، مما يضع الطرف الآخر تحت ضغط فوري ويحدد بشكل واضح من يمسك بزمام الأمور. هذا الأسلوب يمثل تحولا جديدا في الطريقة التي تمارس بها الدبلوماسية، مبتعدا عن الأساليب التقليدية القائمة على السرية والحوار التدريجي.
فمن خلال خبرته الطويلة في عالم الأعمال، أتقن ترامب فن وضع خصومه أو محاوريه في موقف ضعيف، مستخدما أساليب تتجاوز مجرد الكلمات والتفاوض المباشر. فهو يدرك جيدا أن السيطرة لا تتعلق فقط بالقرارات الكبرى، بل تمتد إلى التفاصيل الدقيقة التي قد تبدو غير مهمة لكنها تحمل دلالات قوية. فحتى طريقة ترتيب المقاعد خلال الاجتماعات والمقابلات ليست أمرا عشوائيا بالنسبة له، بل أداة استراتيجية يستخدمها بعناية. فهو يعلم أن وضع شخص ما في كرسي منخفض مقارنة بمقعده الخاص، أو إبعاده عن مركز الاهتمام، أو حتى اختيار غرفة ذات تصميم معين، كلها عوامل يمكن أن تخلق انطباعا نفسيا بالهيمنة والتفوق. هذه التقنيات، التي تعلمها من عالم الأعمال حيث السيطرة على طاولة المفاوضات أمر حاسم، باتت جزءا من أسلوبه في السياسة، حيث يسعى دائما إلى فرض موقف القوة منذ اللحظة الأولى لأي لقاء.
وضع زيلينسكي في ذلك الموقف المحرج لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل كان خطوة محسوبة جعلته أمام معضلة سياسية معقدة لا خيار فيها دون ثمن. فمن ناحية، إذا اختار الامتثال لما يريده ترامب وأظهر خضوعا لمطالبه، فإنه يخاطر بفقدان جاذبيته ومصداقيته أمام الشعب الأوكراني، الذي يرى فيه قائدا يدافع عن سيادة بلاده ويواجه الضغوط الخارجية بحزم. مما يضعف موقفه الداخلي ويجعله عرضة لانتقادات واسعة من مواطنيه ومن خصومه السياسيين، الذين قد يصورونه على أنه زعيم تابع لا يمتلك استقلالية القرار. ومن ناحية أخرى، إذا قرر التمسك بموقفه والدفاع عن المصالح الأوكرانية أمام ترامب، فقد تكون لذلك تبعات خطيرة على علاقته المستقبلية مع الولايات المتحدة.
فمن المعروف أن ترامب لا يتسامح مع من يواجهه علنا، ويميل إلى معاقبة من يرفض الانصياع لرؤيته. فأي تحد مباشر منه قد يؤدي إلى تدهور العلاقات بين كييف وواشنطن، مما قد ينعكس سلبا على الدعم الأمريكي لأوكرانيا على جميع المستويات. وبالتالي، أُجبر زيلينسكي على السير في حقل ألغام سياسي، حيث لم يكن هناك خيار مثالي، وكل خطوة كان لها عواقبها الخاصة، مما جعله في وضع شديد الهشاشة أمام كل من شعبه وحليفه القوي في البيت الأبيض.
كان على الرئيس الأوكراني لو امتلك الجرأة والقدرة السياسية، أن يواجه ترامب بحقيقة واضحة، وهي “أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة هو الذي دفع أوكرانيا إلى هذه الحرب، وأنها لم تكن لتجد نفسها في هذا الوضع لولا الخيارات والسياسات التي فُرضت عليها من الغرب”. لكن القول بمثل ذلك قد ينهي مسيرة زيلينسكي الذي لا يملك القدرة على تغيير السيناريو وإعادة صياغة الأحداث وفقا لرؤيته الخاصة، فهو ليس في موقع يسمح له بممارسة نفس النوع من النفوذ السياسي والإعلامي الذي يجيده ترامب، والذي يمكنه من فرض روايته للأحداث دون مقاومة تذكر.
حتى عندما حاول ترامب استعراض موقفه القوي بالقول: “أنا من سلّحكم بصواريخ جافلين عام 2017″، كان من المفترض أن يكون رد زيلينسكي واضحا وجريئا: “سيدي الرئيس، أنتم من دفعتمونا إلى هذه الفوضى منذ البداية”. لكن مرة أخرى، لم يكن ذلك خيارا متاحا له، لأن تبني هذا الخطاب يعني نسف السردية التي تعتمد عليها أوكرانيا بالكامل. فزيلينسكي ملتزم برواية تعتبر أوكرانيا “الضحية البريئة”، الدولة التي لم ترتكب أي خطأ، ولم تقم بأي استفزاز، وإنما وجدت نفسها في مواجهة حرب فرضتها عليها روسيا بشكل أحادي. وهذا الموقف ليس مجرد خطاب سياسي، بل هو حجر الأساس الذي يقوم عليه الدعم الغربي لأوكرانيا. فأي انحراف عن هذه السردية، حتى ولو كان بسيطا، قد يقوض الدعم الذي تحصل عليه كييف من الولايات المتحدة وحلفائها.
لذلك، حتى لو أدرك زيلينسكي أن الحقائق على الأرض أكثر تعقيدا، فهو مقيد بخطاب دبلوماسي محسوب بدقة، لا يسمح له بالخروج عن الرواية الرسمية، في حين أن ترامب، بحرية تامة، يستطيع إعادة صياغة الأحداث لصالحه، وتوجيه الحوار بحيث يعزز موقفه السياسي، بينما يترك زيلينسكي في موقف دفاعي لا مفر منه.
أما صفقة المعادن فلم تكن في الأصل مبادرة أمريكية، بل جاءت كفكرة من أوكرانيا نفسها، بهدف إيجاد وسيلة غير مباشرة لتحفيز إرسال المزيد من الأسلحة، خاصة في الخريف الماضي عندما أوقف الكونغرس الأمريكي تمرير مساعدات عسكرية جديدة لكييف. كانت أوكرانيا تسعى إلى تقديم مواردها المعدنية الاستراتيجية كحافز إضافي لإقناع واشنطن بزيادة دعمها العسكري، في وقت كانت فيه الجبهة بحاجة ماسة إلى تعزيز القدرات الدفاعية.
لكن ما حدث لاحقا غيّر مجرى الأمور تماما، حيث قلب ترامب الصفقة رأسا على عقب، محولا هدفها من “أداة” لزيادة الدعم إلى “تعويض” مقابل ما قدمته الولايات المتحدة سابقا. فلم يعد الأمر متعلقا بمساعدات إضافية، بل أصبح وسيلة لسداد ما تعتبره إدارة ترامب دَينًا مترتبا على أوكرانيا تجاه واشنطن. هذه القراءة الجديدة كانت عكس ما خطط له الأوكرانيون، بل وحتى الأوروبيون بشكل عام، الذين كانوا يأملون في استمرار تدفق الأسلحة على أساس هذه الصفقة.
ولإضفاء مزيد من المصداقية على موقفه، لم يكتفِ ترامب بمجرد تعديل السردية، بل ذهب أبعد من ذلك عبر خلق رواية تضع أمريكا في موقع الطرف المتضرر. بحيث لم تعد الولايات المتحدة في هذه الرواية هي الدولة السخية التي تساعد أوكرانيا بدافع الالتزام الاستراتيجي، بل أصبحت الضحية التي قدمت الكثير دون أن تتلقى الامتنان الكافي. ومن خلال هذه السردية، جعل ترامب أي مطالب أوكرانية جديدة تبدو وكأنها جحود وعدم تقدير، مما يمنحه مساحة أكبر للمناورة ويفرض شروطه على أي اتفاق مستقبلي.