نقاش حول “إزالة الاستعمار”.. لا تحرر داخل الهيمنة الثقافية

بدأت في الآونة الأخيرة مجموعة من المجموعات والمؤسسات الثقافية تتحدث عن إنهاء أو إزالة الاستعمار le decoloniale، بفتح نقاشات حول أهمية التفكير خارج المنطق الأوروبي، لكن بصيغ تعيد إنتاج هذا المنطق بل تكرره، في أغلب الوقت، بطريقة ترضي المانحين الأوروبيين في برامج تستهيم أكثر مما تُنتج، وتقدِّم أكثر مما تناقش ماهية الاستعمار؛ الهيمنة.
هذا العود الجديد/القديم لفكرة التحرر من الاستعمار، للأسف، عاد بعمق أقل مما كان عليه الأمر في بداية السبعينيات، في السياق المغربي على الأقل، حيث أن فكرة تحرير المعرفة من الهيمنة الاستعمارية، تجاوزت مرحلة النقد، إلى مرحلة الإنتاج المعرفي؛ بول باسكون في السوسيو-أنثروبولوجيا بنظريته حول “القيدالية”، العروي في التاريخ بمنهجه “التاريخانية”، الخطيبي في السوسيولوجيا بمنهج “النقد المزدوج”…، وآخرون بإنتاجات حاولت تجاوز الخطاطات المحددة مسبقا في عملهم الميداني.
يتطلب العودة إلى التحرر من الاستعمار، في سياق مازال يخضع للسلطوية، جرأة تتبع ومساءلة بقايا الاستعمار في الدولة الوطنية، من حيث غربلة القوانين والمساطر الإدارية الموروثة عن زمن الاستعمار، وكذلك تفكيك ارتباط النخبة الوطنية مع المستعمر. فأي دعوة لإزالة تتجاوز تفكيك آليات استمرار تدخل القوى المستعمرة، واستدامتها من حيث (قوانين البلد، المعاهدات وإلاتفاقيات، والعلاقات الثنائية…)، فضلا عن استمرار تموقع ثقافة المستعمر في البلد، وارتباطاتها مع نخبة تابعة تحرس قيم المُستعمر وتنشر ثقافته، تبقى (دعوة) تفكيك الاستعمار شعار يُرفع لتبرير تدخل المُستعمر، ثقافيا، وعدم تحرير استعمار العقل. فكما كتب الكاتب والروائي الكيني، الذي توفي الأسبوع الماضي، نجوجي واثيونجو، الذي كتب في تشريح تغلل الاستعمار ثقافيا: “المضطهدون والمستغلون في الأرض، ماضون في تحديهم: التحرر من السرقة. لكن السلاح الأكبر الذي أعده الاستعمار وشرع يستخدمه فعليا، كل يوم، ضد ذاك التحدي الجمعي هو القنبلة الثقافية”.
لقد تنبأ الشاعر الغواتيمالي أوتو رينيه ماستيلو في قصيدته الموجهة إلى “المثقفين” غير المهتمين بالسياسية، سوف ينهض الرجال والنساء البسطاء في كل البلدان، ويسألوننا ماذا فعلنا حين كانت شعوبنا تذوي ببطء “مثل نار حبيبة، صغيرة ووحيدة” أجل، يسألوننا:
ماذا فعلتم حين تعذب الفقراء
حين الرقة
والحياة
انطفأتا فيهم؟ (تصفية استعمار العقل، ترجمة: سعدي يوسف. ص:194).
لقد أصبح شعار “إزالة الاستعمار” من دول الجنوب يرفع من قبل البلدان التي تركت مستعمراتها لنخب أعدتها مسبقا، وحتى أنها وضعت صناديق ومنح للتفكير في مسألة إزالة الاستعمار، بطرق ناعمة، تفتح نقاشات في بعدها التجريدي، ولا تقبل أي محاولة لدفع النقاش إلى ربط “إزالة الاستعمار” باستمرار “الهيمنة” بصور مختلفة، لضمان مصالح المستعمر في زمن ما بعد الاستعمار.
في السياق المغربي، خاصة، وقفت الدعوة الجديدة/القديمة، لإزالة الاستعمار في شمال إفريقيا، على عتبة التناقض المفضي إلى التواطؤ. فحلقة النقاش التي جمعت مجموعة كبيرة من المهتمين، في عملهم، البحثي أو الإبداعي، بفكرة التحرر، وجدوا نفسهم، خاصة بعد الهجمة الهمجية لإسرائيل على غرة، وتواطؤ معظم الدول الغربية، التي تتبجح بحقوق الإنسان والحفاظ على كرامة البشر، في معضلة كيفية إنتاج خطاب للتحرر من الهيمنة، دون إدانة الجهات التي تستمر في دعم وشرعنة قتل مادي، بشكل جماعي، لساكنة قطاع غزة؟ أو تتواطأ مع معه بالصمت القاتل.
فهل يمكن خلق فكر تحرري من الاستعمار دون مساءلة الهيمنة بشتى أشكالها، وبما فيها التحرر من هيمنة تمويل المؤسسات الداعمة للقتل، والساكتة عنه، وخلق أساليب تشاركية للتفكير خارج هيمنة المنح والبرامج، المنسقة مسبقا؟