نصيحة روسية
انعقد خلال اليومين الماضيين في مدينة مراكش، منتدى التعاون العربي الروسي، في سياق يغلب عليه الطابع الثنائي، المغربي-الروسي أكثر من البعد الإقليمي المعلن.
فليعذرنا الأشقاء العرب، لأن المقصود هنا ليس التقليل من أهمية أي بلد أو تكتل عربي في مقابل روسيا، والجميع يعلم أن للعلاقات العربية-العربية مجالاتها الخاصة، وبالتالي لن نتوقف عند قائمة من حضر ومن غاب من الأشقاء العرب (غابت سوريا والجزائر كليا وحضرت 16 دولة من بينها تونس)، بل يهمنا هنا حضور وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف شخصيا ووقوفه في الافتتاح كما في الختام إلى جانب وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، في عز الحرب الروسية على أوكرانيا التي يسندها.. حليفنا الغربي.
يهمنا كثيرا الوقوف عند هذا المشهد، لأننا في سياق خاص وظروف استثنائية، تحاصر وتحارب فيها روسيا من طرف المعسكر الغربي، في الوقت الذي نعتبر نحن أحد المعاقل الأساسية للغرب في المنطقة. ودعونا أولا نتحفظ على تلك العبارات المسكوكة التي يلقيها بعض المحللين و”الخبراء” كلما سئلوا عن طبيعة العلاقات المغربية مع إحدى الدول. فالعلاقات المغربية الروسية ليست بالتاريخية ولا هي استراتيجية.
سجلات التاريخ تقول إن الصلة تكاد تكون مقطوعة بين المغرب وروسيا في عهدها القيصري، بالنظر إلى التباعد الجغرافي بين البلدين وغياب مصالح مشتركة أو نقط تماس تجارية أو ملاحية. وحتى الحروب الكبرى التي خاضتها روسيا ضد دول إسلامية مثل الخلافة العثمانية، لم يكن المغرب يتأثر بها أو يؤثر فيها. كما كانت علاقاتنا بروسيا السوفياتية أكثر برودة من الحرب الباردة نفسها، بما أننا اخترنا المعسكر الغربي في وقت كان الاتحاد السوفياتي رأس المعسكر الشرقي.
لنترك أذن التاريخ ولغة الخشب جانبا ولنحاول فهم ما يجري في الحاضر، ولنسجل منذ البداية ودون تردد، أن تطوير وتعزيز العلاقات مع روسيا هو أحد الاختيارات الجديدة الواضحة التي جاء بها الملك محمد السادس ضمن مشروع مُلكه، إذ تعتبر زيارته إلى موسكو عام 2002 لحظة مؤسسة لهذه العلاقات، بينما جاءت زيارته الثانية في 2016 لتنتج الإطار الاتفاقي الجديد الذي سمح لعلاقات البلدين بتحقيق طفرة نوعية، سياسيا واقتصاديا على الخصوص.
مجرد انعقاد المنتدى الروسي العربي في المغرب في السياق الحالي هو بمثابة النجاح الذي يحسب للدبلوماسية المغربية، ويجعلها في منأى عن أية دروس أو انتقادات يمكن أن نوجهها إليها، وإن كان بالإمكان دائما أحسن مما كان.
فأن تدبر علاقات مع دول من حجم الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في أكثر السياقات تعقيدا وتوترا، وتودع مسؤولا أمريكيا بيد لتستقبل مسؤولا روسيا بأخرى، هو بالضبط ما ينبغي لبلد كالمغرب، رأسماله هو موقعه الاستراتيجي واستقراره المؤسساتي وإرثه التاريخي، أن يقوم به. ويمكننا اليوم أن نقول إن “الدوخة” التي بدت على الدبلوماسية المغربية في بدايات الأزمة الأوكرانية قد تبددت وانتهت.
المغرب اليوم وهو ينخرط في حلف أطلسي كبير، في طور التشكل، بقيادة الولايات الأمريكية، ينجح في إقناع حلفائه بأهمية احتفاظه بخط اتصال مباشر مع موسكو، بالسماح لطيرانها بالتحليق في أجوائه في الوقت الذي يمنع من دخول أجواء الغرب وحلفائه، ويواصل التعامل التجاري معها فيستورد منها المواد الطاقية والمعدنية ويصدر إليها المواد الفلاحية والمشتقات الفوسفاطية، بل ويسمح لسفنها بالصيد في مياهه الإقليمية.
في المقابل، يحصل المغرب على “سلم” عسكري ودبلوماسي من جانب روسيا، رغم أننا نجاور أحد أكبر زبنائها ومستهلكي سلاحها: الجارة الجزائر، كما نتقي شرها وهي صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن حيث يناقش ويدبر ملف وحدتنا الترابية.
هذا هو لب فن الدبلوماسية وأكثر ما نحتاج إليه، أي اللعب على التناقضات والمصالح لجلب أكثر ما يمكن من منافع ودفع الأخطار. مع ضرورة التنبيه إلى أن علاقتنا مع روسيا ليست مثالية، وتحتاج إلى مزيد من التطوير، خاصة في الاقتصاد والتجارة، حيث يظل الميزان التجاري مائلا بقوة لصالح موسكو، إلا إذا اعتبرنا السياح الروس الذين يزوون المغرب بشكل متزايد تعويضا لنا عن عجزنا التجاري.
ما يهمنا الآن بعد التعبير الواضح عن الموقف هو محاولة الفهم. وعندما نقول إن المنتدى الذي عقد في مراكش هذا الأسبوع كان ثنائيا أكثر منه متعدد الأطراف، فلأن مسار التحضير لأشغاله شهد نشاطا كبيرا للاتصالات الدبلوماسية المغربية-الروسية، وحتى أجندة اللقاء ومستوى مشاركة الدول العربية فيه، يؤكد أننا كنا أمام لقاء مغربي-روسي تحت غطاء إقليمي، وإلا كيف يكون اللقاء عربيا-روسيا ولم يحضر الأمين العام لجامعة الدول العربية سوى افتراضيا وعن طريق الاتصال عن بعد؟
وإذا كان ما نريده نحن من روسيا واضحا ويكاد يختصر في ملف وحدتنا الترابية، فإن ما تبحث عنه روسيا في مثل هذا اللقاء، وما جعل وزير خارجيتها يستقطع من أجندته من الوقت ما يسمح له بالسفر إلى مراكش وحضور اجتماع وندوة صحافية… هو أساسا سعي واضح إلى كسر الحصار والعزلة المفروضين على روسيا من جانب القوى الغربية، والبحث عن منافذ لفتح قنوات تجارية جديدة والحصول على المواد الأساسية التي بات الأوربيون يمتنعون عن تصديرها إلي روسيا…
ثم هناك نقطة جوهرية في ملف المصالح الروسية مع المغرب، وهي ورقتنا الثمينة المتمثلة في حيازة الكثير من شفرات القارة الإفريقية، ساحة الصراع والتنافس الدوليين الصاعدة. كل ذلك يشي بالفرص الكثيرة المتاحة أمام المغرب في حال ثباته على سياسة تنويع الشراكات وعدم وضع بيضه كاملا في سلة واحدة.
بالعودة إلى المعطى التاريخي، تقول الوثائق إن العلاقات المغربية الروسية كانت شبه ميتة قبل القرن الماضي، ولم تكن هناك سفارات متبادلة بين السلاطين المغربة وقياصرة روسيا، بل كانت فرنسا وإسبانيا من تقومان بتمثيل روسيا ومصالحها في المغرب خلال فترة التنافس الاستعماري حول المغرب، فكانت سفارة إسبانيا تتولى تمثيل روسيا لدى المغرب، بينما كانت فرنسا تقحم روسيا حيث تريد أن تطرد ألمانيا أو تضيّق عليها داخل المغرب وأسواقه.
لكن، وفي بداية القرن العشرين، اعتبرت روسيا أنها تحتاج إلى تمثيل دبلوماسي فعلي في المغرب، وأرسلت سفيرا لها إلى طنجة، العاصمة الدبلوماسية للمغرب، فكان على السفير الجديد أن يسافر إلى فاس، العاصمة السياسية، لتقديم “أوراق اعتماده” للسلطان عبد العزيز. وخلال فترة السفر من طنجة إلى فاس، وكان سفرا شاقا يستغرق عدة أيام، كانت زوجة السفير تدون ملاحظاتها ومشاهداتها في مذكرات شخصية، مركزة على الصعوبات والحوادث النادرة، فكان مما كتبته بسخرية عن وعورة المسالك والطرق المغربية، أن نصحت المغاربة بعدم تعبيد الطرق، لأن الطرق المعبدة تساعد على احتلال البلاد.
اليوم وبعد مرور أكثر من قرن، يبدو أن العلاقات المغربية الروسية راكمت من المصالح ما يسمح لها بطفرة جديدة. دون أن تكون موسكو مجرد أداة توظفها القوى الأجنبية ضد بعضها البعض لتحقيق أطماعها لدينا، ولا بقاء طرقنا غير معبدة لأن التخلف لا يحمي من الاستعمار.
اليوم لدينا حكمة روسية أخرى تستحق أن نعمل بها، وهي تقول: “إذا لم يكن لديك مال فليكن عندك أصدقاء”.