story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

نصر ونصف!

ص ص

أخيرا، سينتهي الكابوس الذي حوّل حياة بعضنا إلى مأساة، وسيتمكن أطفال غزة من النوم بهدوء، وستنبش الأيادي حطام البيوت لتبحث عن بقايا أشلاء وذكريات، وستقام خيام العزاء وستضمّد الجراح، وسيعاد الإعمار.

أخيرا خضع الطغاة المحتلون، وأذعنوا، وأقروا بهزيمتهم، وتنازلوا عن أهدافهم العسكرية، الأولية واللاحقة، وجلسوا إلى طاولة التفاوض والندية، واستسلموا لشرط السنوار باستعادة الأسرى مقابل تحرير الرهائن من سجون الاحتلال.

أخيرا سمعنا ولولة المتألمين من بنود اتفاق وقف إطلاق النار من داخل الحكومة والبرلمان الإسرائيليين، ووقف وزير الخارجية الأمريكي، بلينكن، ليكذّب كل ما ردّده هو وحلفاءه من قادة الدولة الصهيونية حول القضاء على حركة المقاومة الإسلامية في غزة كشرط مسبق لأي وقف للعدوان على غزة.

أخيرا سيتمكن المليون المهجّر من دياره في شمال القطاع من العودة إلى جباليا ومحيطها، وسينسحب جيش القتّالين من مواقعه التي زعم أنه احتلّها كي لا يغادرها، وستُستأنف الحياة الطبيعية، ويواصل فلسطينيو القطاع رحلتهم نحو الحرية.

كل هذا والبعض ما زال مصرّا على التنقيص من النصر، والتقليل من فرحة قوم واجهوا الطغيان الكوني وحدهم، عزّلا ومحاصرين.

يصرّ هذا البعض على نشر انهزاميته، ورشّ رذاذ منطقه القاصر في النظر إلى الأحداث داخل مسارها التاريخي والكوني.

لقد كتبنا هنا، في هذه الصحيفة، وفي هذا الركن، أن غزة تنتصر، وعدنا بعد أسابيع وكتبنا أن غزة انتصرت بالفعل، وما يجري اليوم هو مجرّد إقرار بهذا النصر الذي طالما هرب منه المحتل وحلفه.

هل يدرك المرجفون ممن يستكثرون على أيتام وجوعى ومشرّدي غزة فرحة انتهاء الكابوس وتركيع العدوّ، معنى أن تحضر إلى مفاوضات اتفاق وقف إطلاق النار التي جرت هذا الأسبوع في العاصمة القطرية الدوحة، إدارتان أمريكيتان؟ هل يعرفون معنى أن يتسابق بايدن وترامب نحو إخضاع المجرم نتانياهو وحمله على مناقضة نفسه والقبول صاغرا بشرط السنوار في تبادل الأسرى؟

لا يمكن أن يعتقد أي واهم، مهما بلغ مستوى سذاجته، أن إدارة بايدن الديمقراطية وفريق ترامب الجمهوري، يتسابقان حاليا من أجل نيل شرف “إنقاذ” فلسطينيي غزة. فلو كان هذا الشرف يعنيهم لتسابقوا عليه حين كانوا في عز حملتهم الانتخابية. لقد منعهم خضوعهم لضغوط واشتراطات اللوبي الصهيوني من حقن دماء الفلسطينيين، بل تسابقوا وقتها على تشجيع نتانياهو على سفك المزيد منها حتى تحوّلت وديان غزة إلى أنهار من الدماء المحمّلة بالأشلاء.

إنهم يتسابقون اليوم على “شرف” آخر، هو إنقاذ إسرائيل من رحلة هروبها الطويلة من الاعتراف بالانكسار والهزيمة. لقد هبّوا لوقف الانهيار الذي انطلق يوم 7 أكتوبر 2023، ولفتح مسار جديد لمحاولة محو صورة إسرائيل غير الآمنة، وإنقاذ المشروع الصهيوني الذي استثمر فيه الغرب كثيرا وراهن عليه طويلا.

غزة انتصرت لأنها أسقطت مسار التطبيع الذي كان يراد له أن يدوس على الحق الفلسطيني، وأفشلت محاولة طمس القضية وتذويبها في كؤوس النبيذ التي يتقاسمها ندماء صفقة القرن.

غزة انتصرت لأن سابع أكتوبر هنا، في التاريخ وفي الجغرافيا وفي العقول والقلوب. ولأن القطاع هنا في قلب المعادلة ولم يصبح صفرا على الشمال. ولأن أهل غزة لم يفرّوا ولم يهجّروا ولم يتنازلوا عن الأرض ولا عن الديار. بل هم اليوم على موعد مع العودة والإعمار واستئناف الصمود والمقاومة.

ألم يقل بلينكن أمس إن حماس استقطبت بعد اندلاع الحرب أكثر مما كان في صفوفها من المقاتلين، وأن مخيّم جباليا دليل على أنه كلما اعتقد الاحتلال أنه قضى على المقاتلين انبعث فيلق جديد من تحت الركام؟

غزة انتصرت لأنها واجهت وحيدة، محاصرة في ركن صغير بين قارتين وبحرين، أعداء يحوزون أكبر وأضخم وأعتى الجيوش وأفتك الأسلحة، لأنها حافظت على راية المقاومة عالية لا تنكّس، وهذا هو عنوان انتصار المقاومة وليس حسابات الخسائر المادية ولا البشرية.

غزة انتصرت لأنها منحت المنطقة المستهدفة بالحروب والدمار والمؤامرات والتفكيك والتلغيم، فرصة لم تتحقق حتى في حروب 1967 و1973، لتوحيد الإرادات في مواجهة التهديدات والمكائد.

لا يمكننا مهما بلغ جبننا وتقاعسنا أن ننكر الملحمة التي عاشها لبنان بمقاومته الشامخة، حين هبّ حزب الله لإسناد أهل غزة المحاصرين المستضعفين، وخاض حربا هو أعلم الناس باختلال موازين قوتها العسكرية، وفرض على المستوطنين المحتلين أن يتجرّعوا كأس التهجير القسري وإخلاء الديار والاختباء في الأقبية.

ولا يمكننا في لحظة انتشاء وفرح مثل هذه، ألا نعترف لغزة بكونها جعلتنا نتابع ملاحم قادة ومقاومين تقدّموا نحو نهاياتهم بطريقة بطولية كدنا نصدّق أنها لم تعد سوى ذكرا من الأساطير. الشهادة التي حظي بها قادة مثل نصر الله والسنوار وهنية والغول… بقدر ما آلمت كل مناصر للحق ومتلهّف للعدالة، أحيت في النفوس قيم البذل والتضحية والإيمان بالقضايا حتى الموت.

أجمل ما حقّقته غزة في حربها الخالدة التي ستوثّقها سجلات التاريخ، هو أنها نصرتنا في الوقت الذي كنا نعتقد أنها تنتظر منا النصر، وخدمتنا بدل أن نخدمها.

لقد قدّمت لنا غزة طوق نجاة، نحن الجيل الذي عاصر الربيع العربي وآمن به.. طوق نجاة من خطر الذبول والاستسلام لمنطق الهزيمة.

إننا جيل تجرّع الخيبات والنكسات والحسرات، والعشرية التي أعقبت الربيع العربي شهدت كل ما يمكن أن يهزم النفوس ويبدّد الآمال ويبعث على الانكسار والانسحاب…

لكن لحسن الحظ كانت هناك غزة، وكان هناك طوفان الأقصى، وكان هناك صمود وبطولات وبقاء أمام أعتى أساطيل وجيوش العالم، ليس بالإيمان والعقيدة فقط، بل بالتخطيط والتنسيق واللعب لعب الكبار، من غزة إلى اليمن، مرورا بلبنان والعراق…

لقد خاضت غزة حربها لأكثر من عام وربع العام، فتحقق لها أكثر من نصر.. بل هو نصر ونصف!