story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

نصر الله قريب!

ص ص

عند وقوع أحداث عظيمة، تُختبر قدرة الإنسان على التفاعل معها بما ينبغي من توازن بين شقيه: العاطفي والفكري والقيمي من جهة، والعقلاني والمنطقي والواقعي من جهة ثانية.
ومشكلتنا أمام حدث مثل اغتيال قيادة تنظيم حزب الله اللبناني، أننا ننقسم إلى فريقين، واحد ينزاح كليا إلى تغليب كفة الانفعال العاطفي، وثان يرفع راية ما يعتبره عقلانية وكأنه اكتشف جاذبية نيوتن من جديد.
كما ننسى أنفسنا جميعا وننساق بشكل جماعي نحو الانخراط في ضجيج يحاول كلا الطرفين تغليب صوته فيه، بينما لا نكاد نسمع أيا من الفريقين.
في الحالة المغربية، من حق كلّ منا أن ينخرط في معركة فرض السردية لأنها مهمة وحيوية في مستقبل الأحداث الجارية. ولا شكّ أن معركة الترميز جزء أساسي من كل معركة ذات بعد إنساني وكوني مثل القضية الفلسطينية.
لكن في قلب هذا الضجيج، يحتاج المغاربة من مثقفيهم وقادة رأيهم (إذا جاز استعمال هذا المفهوم في الوقت الراهن)، إلى جواب هادئ وبسيط حول سؤالين: ماذا وقع؟ وكيف ينبغي التفاعل معه؟
بالنسبة للسؤال الأول، شخصيا أعتبره بسيطا ولن أخصص له حيزا كبيرا، لأنني أعتقد وبكل بساطة أننا لسنا أمام معركة خسرها معسكر المقاومة في مواجهة معسكر الاحتلال. بل نحن أمام لحظة تحوّل جذري وعميق، لن يكون حزب الله اللبناني بعدها وعلى الإطلاق، كما كان قبلها.
نحن أمام عملية جراحية دقيقة وناجحة، لاقتلاع الحزب كأداة أساسية في معركة المقاومة الجارية في لبنان منذ عقود، وفي الوقت نفسه قطع لرأسه التنظيمية، السياسية والعسكرية. لا مجال هنا للمكابرة أو العناد أو بيع الوهم.
لا أرى شخصيا أي مانع لتشبيه الضربة المركبة التي وجهّتها إسرائيل للمقاومة في لبنان خلال الأسابيع الماضية، بضربتها ضد الجيوش العربية، وخاصة الجيش المصري، في حرب 1967.
هذا عن الذي حصل، فماذا عن كيفية التفاعل معه؟
هنا أيضا الأمر بسيط للغاية، ومتروك للاختيارات الفكرية والعقدية لكل فرد أو جماعة، لولا نقطتين هما بمثابة الطرد الملغوم، لابد من الاقتراب منهما ومحاولة تفكيكهما بالتبسيط والتوضيح والتفسير: مشاركة حزب الله في الحرب السورية عقب ثورة الربيع العربي، وعلاقة الحزب المفترضة مع جبهة البوليساريو الانفصالية.
هنا يوجد كامل “الخير” الذي يمكن لكل من يرى في نفسه قدرة على المساهمة الإيجابية في النقاش والتنوير والتوضيح، لأن للموضوعين تأثير كبير على قدرة الانسان العادي، خاصة منه الانسان المغربي، على اتخاذ موقف مما جرى.
بالنسبة لمشاركة حزب الله اللبناني في الحرب السورية. لا شك أنها مشاركة موثّقة وأكيدة، بل ورسمية بإقرار الحزب نفسه. وجاءت تلك المشاركة استجابة لطلب (أو أمر) المظلة الإيرانية التي يرفعها الحزب من جهة، ومساهمة في دعم حليف استراتيجي هو نظام الرئيس السوري بشار الأسد، والذي يعتبر حبل السرة الذي يغذي الحزب بالدعم القادم من ايران.
كما جاءت هذه المشاركة لأسباب عقدية وايديولوجية، أي الدفاع عن المكوّن الشيعي في سوريا، سواء في بعده البشري أو معاقله الدينية ورموزه الأساسية.
وجاء دخول حزب الله اللبناني بشكل مباشر في المعركة بعد ظهور تنظيمات مقاتلة مكوّنة أساسا من مقاتلين أجانب، يحظون بالدعم الغربي والعربي، مع الاعتماد على المرجعية الدينية السنّية كأداة للحشد والتعبئة والتحفيز.
لا يعني هذا تبرير مشاركة حزب الله في الحرب السورية، بل هي معطيات لابد من استحضارها إذا كان الهدف هو الفهم والاستيعاب. ولا يمكن بأي حال من الأحوال نزع صفة المشاركة في جرائم النظام السوري ضد الشعب السوري.
والموقف الذي اتخذته قيادة حركة حماس حجة قوية ضد حزب الله في هذا الجانب، حيث رفض القادة الفلسطينيون دعم بشار الأسد “ظالما أو مظلوما”، وهو ما أجبرهم على مغادرة دمشق التي كانوا يلوذون بها ويحتاجون دعمها أكثر من حاجة حزب الله اللبناني.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل الميزان الأخلاقي يجيز ترجيح كفة معطى مشاركة حزب الله في الحرب السورية على موقفه تجاه القضيتين اللبنانية والفلسطينية؟ كيف ولماذا وبأي منطق تجوز الشماتة في هزيمة حزب الله الاستراتيجية أمام إسرائيل، لأنه شارك في جريمة ضد السوريين؟ منذ متى كانت إسرائيل تحقّق العدالة في الأرض وتنتصر للمظلوم من الظالم؟ وهل كان شنق صدّام حسين مثلا، وهو الدكتاتور السنّي البعثي العلماني، انتصارا من حلفاء غريمته إسرائيل لحساب ضحاياه الأكراد والشيعة؟
موقف الحزب في الحالة السورية خاطئ وغير قابل لأي تبرير أو تسويغ، لكن موقفه في الجبهة الاسرائيلية صحيح ومشرّف وبطولي. فلماذا يطالب البعض بإصدار حكم شامل كما لو أننا في محكمة تصنّف الماثلين أمامها بين ملائكة وشياطين؟
الغريب أن البعض يتصرّف كما لو أن ذاكرة الشعوب قصيرة، ويتناسى أن المغرب كان له تأثير كبير وحاسم في الاعتراف بشرعية سلاح حزب الله باعتباره سلاح مقاومة مشروعة، من خلال الدور الخاص الذي لعبه الملك الراحل الحسن الثاني، حين اقترح في مايو 1989 تشكيل لجنة رباعية تضم كلا من السعودية والجزائر وسوريا، إلي جانب المغرب، هي التي ستفضي إلى توقيع فرقاء الحرب الأهلية اللبنانية لاتفاق الطائف، والذي نص على “اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي”، ومنح بالتالي شرعية لاحتفاظ حزب الله بسلاحه.
من يحبّ شعوب المنطقة، عليه أن يساهم في تمكينها من حدّ أدنى من التدقيق والتمييز وتقدير كل معطى بقدره المناسب والصحيح. لا حشدهم بالشعارات والعناوين المختزلة والأحكام المطلقة.
نأتي الآن إلى مسألة دعم حزب الله للبوليساريو.
ماذا لدينا من معطيات؟
تعود بداية هذا الموضوع إلى شهر ماي 2018، حين قرر المغرب قطع علاقاته الدبلوماسية من جديد مع ايران، مبررا ذلك باكتشاف دعم عسكري من جانب حزب الله اللبناني لصالح جبهة البوليساريو الانفصالية.
وتولّى حينها مصطفى الخلفي، القيادي في حزب العدالة والتنمية، تفصيل صك الاتهام هذا، بصفته ناطقا رسميا باسم الحكومة. وقال المتحدث نفسه يومها إن هناك ثلاثة عناصر أساسية تؤكد الاتهام المغربي لإيران.
أولا هناك معطى يقول بوصول خبراء عسكريين من حزب الله اللبناني إلى معسكرات البوليساريو في تندوف، بهدف تدريب المقاتلين الانفصاليين على خوض حرب الشوارع ضد المغرب؛
وثانيا، قال الخلفي إن هناك شحنة من الأسلحة سلّمها حزب الله اللبناني للبوليساريو، تضم صواريخ من نوع “سام9” و”سام11″…
وثالثا، حسب الخلفي دائما، هناك شخص يتبع للسفارة الإيرانية في الجرائر، ويحمل جواز سفر دبلوماسي، يقوم بتقديم دعم لوجستيكي للبوليسايو، بغرض التنسيق والتواص لمع حزب الله.
بعد ذلك، أصبح وزير الخارجية ناصر بوريطة يكتفي بالحديث عن زيارة مسؤولين من حزب الله مقرات البوليساريو في 2016، واعتقال مسؤول في حزب الله خلال عبوره أحد مطارات المغرب وتسليمه للولايات المتحدة وسعي حزب الله للانتقام بسبب ذلك، ووجود “دعم لوجستيكي” يفترض أن حزب الله قدمه للبوليساريو.
هذا كل ما لدينا من معطيات من جانب الحكومة المغربية.
في المقابل، نفت ايران أية علاقة لها بالبوليساريو وأي وجود لحزب الله في الجزائر. كما نفى حسن نصر الله شخصيا وخلال تطرقه للموضوع بشكل عابر في أحد خطبه، أية علاقة للحزب بالبوليساريو، معلنا أنه سمع لأول مرة باسم مدينة تندوف، وقال بعدم وجود أي موقف لدى الحزب في قضية الصحراء لعدم دراسته لها. كما نفت البوليساريو بشدة تلقيها أي دعم عسكري من ايران أو حزب الله.
هنا كان يفترض أن يخرج ناصر بوريطة ليدلي بالقرائن والحجج التي قال إنه يتوفّر عليها حول علاقة حزب الله العسكرية بجبهة البوليساريو. ليس لأن هذا المعطى يغيّر من طبيعة الحزب كتنظيم مقاوم له كامل الشرعية، بل لأن المواطن المغربي يستحق حدا أدنى من التقدير والإشراك والاحترام لذكائه.
لا علاقة للأمر هنا بتصديق الأجانب وتكذيب المسؤولين المغاربة، بل بمعطيات تشكل تهديدا للأمن القومي للمواطنين المغاربة ولا يمكن التعامل معها بمنطق أنا نقول ونتوما تيقوني.
وإذا كانت الثقة ضرورية بين المسؤولين الحكوميين والشعوب، فإن الحكومات هي الجانب المطالب ببناء هذه الثقة وتغذيتها وتحصينها. وحكومات الدول الديمقراطية تفعل ذلك عبر التواصل والمثول أمام ممثلي الشعب وصحافته لعرض الحقائق والقرائن والبرهنة على سلامة القرارات المتخذة…
ألم يخبرنا تقرير حديث أن وزير الخارجية ناصر بوريطة هو أكثر الوزراء، بعد رئيس الحكومة، استخفافا بممثلي الأمة وأعضاء البرلمان من خلال امتناعه عن الجواب على أسئلتهم؟
كما أن إمكانية الخطأ تبقى واردة، وهي ما يستدعي التواصل والإقناع وتقديم ما يكفي من معطيات.
لا شك أن المغرب يعتمد في عمله الاستخباراتي الخارجي على التعاون مع وكالات أجنبية، وهذه الوكالات لا تهمها مصلحة المغرب ولا المغاربة، بقدر ما تهمها مصالح دولها الخاصة، وبالتالي قد تورّطنا في معلومات ناقصة أو كاذبة تماما.
ألم يثبت كذب رؤساء ووزراء أعتى الدول الديمقراطية لتضليل الرأي العام وشن الحرب على العراق؟ ألم يثبت كذب بوش الابن ووزير دفاعه ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير… بشأن مزاعم حيازة صدام حسين لأسلحة كيماوية؟
بل ألم يورّط أمريكي الدولة المغربية في مزاعم اكتشاف احتياطيات نفطية كبيرة في تالسينت، ما جعلها في موقف محرج ودفعها إلى ملاحقة هذا الشخص أمام القضاء الأمريكي؟
لماذا علينا أن نطمئن إلى أن بلدنا لم تكن موضوع ضغط وابتزاز، وقد كان في فترة قطع العلاقات مع إيران هذه، يعيش واحدة من أصعب فترات الضغط الدولي عليه في ملف الصحراء، حين تم تقليص ولاية بعثة المينورسو من سنة إلى ستة أشهر وأصبح عنقنا تحت تهديد دائم؟
أي أننا وقبل أن نناقش الانعكاس المنطقي لوجود علاقة ما بين حزب الله وجبهة البوليساريو، على موقفنا من كيان سرطاني مثل إسرائيل، نحتاج إلى إعمال هذا العقل الذي يزعم البعض اعتماده في تسفيه التعاطف الوجداني، الطبيعي والمشروع، مع الفلسطينيين واللبنانيين وكل من يواجه طاغوت الزمان.
أين هي هذه الدلائل والحجج التي تثبت علاقة حزب الله بجبهة البوليساريو؟ أين هي صور الأقمار الاصطناعية؟ وأين الوثائق؟ وأين الصور الفوتوغرافية؟ وأين آثار وقطع وبقايا السلاح المقدّم؟ وأين وأين وأين؟
أحترم شخصيا من يقول إنه يحبّ إسرائيل، هكذا لله في سبيل الله. وكما يقول “الزهوانيون”، لا ملامة على المحبّين.
كما أحترم من يقول إنه فرح لاغتيال حسن نصر الله لأنه يكره لحيته، أو يبغض عمامته، أو لا يطيقه ولا يطيق مرجعيته الدينية والسياسية. هذا كره مشروع.
لكن المغاربة ومنذ بصع سنوات يتعرضون لحملات تضليل لحملهم على تغيير اتجاه البوصلة. يطالبون باتباع جيلالة بالنافخ ويٌستهدفون بآلة دعائية ضخمة هدفها طمس الحقائق والتلبيس على الخلق.
للشعب السوري كامل الحق في الكرامة والحرية والديمقراطية، ولكل سوري كامل الشرعية للمطالبة بالقصاص من كل من ألحق به أذى سواء كان سنّيا أو شيعيا، مؤمنا أو ملحدا. وللمغرب والمغاربة كامل الحق ومطلق الشرعية في الدفاع عن وحدتهم الترابية الكاملة ومواجهة كل من يهددها من قريب أو من بعيد…
لكن للمغاربة أيضا كامل الحق في الانتساب لمعسكر الإنسانية الرافض لكيان القهر والقتل والاحتلال.
لهم كامل الحق في التضامن مع ضحاياه، والفرح لهزائمه، والحزن لانتصاراته على المقاومين.
لقد عاش حسن نصر الله أيقونة للعناد في وجه رياح الهزيمة، وأجبر الموت على الفزع من بريق عينيه الواثقتين ويده الملوّحة بالنصر؛
أفنى هذا الرجل حياته يتعهّد زهرة الأمل فوق حقل من رماد، ومات منغرسا في عمق تراب بيروت، المدينة التي تكتب التاريخ بدمعة وابتسامة؛
وهو اليوم ينام بعيدا في حضن الخلود، ويتوسّد قلوب الملايين ممن يقبضون على جمر الصدق والوفاء للقضايا العادلة.
وإن نصر الله قريب!