story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

نحو اتحاد أوروبي نووي

ص ص

زيارة إيمانويل ماكرون لبريطانيا، وتوجيهه كلمة بالإنجليزية للبرلمان البريطاني، وحديثه عن دور التنسيق الفرنسي البريطاني في حماية النظام العالمي الذي تولد عن الحرب العالمية الثانية في هذا الخطاب، وتبادل الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر هدايا على شكل لوحات تمجد انتصارات “غيوم الفاتح” Guillaume le Conquérant ,الذي ولد وتوفي في فرنسا ولكنه كان في نفس الوقت، خلال القرن الحادي عشر، دوقا لمنطقة نورماندي الفرنسية تحت اسم “غيوم الثاني”، وملكا على بريطانيا تحت اسم “غيوم الأول”. وكون هذه اللوحات التي تم تبادلها لا تشتمل فقط على دلالات تاريخيّة، ولكن أيضا على دلالات استشرافية لمستقبل العلاقات الفرنسية البريطانية، والتي يبدو من خلالها أن مفاوضات قد فتحت بالفعل حول التنسيق العسكري بين الدولتين النوويتين في أوروبا الغربية (والاتحاد الأوروبي سابقا).

وحيث إنه لم تمض سوى بضعة أيام على زيارة ماكرون للندن، حتى جاءت زيارة ميرتز، المستشار الألماني الجديد، لبريطانيا، والتي تم خلالها التوقيع على اتفاقية وصفت بالهامة جدا تحت مسمى “اتفاقية الصداقة الشاملة الاقتصادية والدفاعية” بين لندن وبرلين، فإن هذا التزامن بين تحركات أهم دولتين في الاتحاد الأوروبي في اتجاه بريطانيا، والذي يحدث في سياق تأزم العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة، والحرب بين أوروبا وروسيا على الساحة الأوكرانية من جهة أخرى، ينبئ بتغييرات جوهرية على مستوى البنيات المؤسساتية والاستراتيجية والأمنية في أوروبا والعالم، يزكيها حديث ماكرون قبل أيام قليلة عن الحاجة إلى توسيع المظلة النووية الفرنسية والبريطانية لتشمل باقي دول الاتحاد الأوروبي.

إن الحرب الروسية الأوكرانية وانتصارات موسكو فيها من جهة، رغم سبعة عشر حزمة من العقوبات المفروضة عليها من طرف الغرب، وانتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية مع ما ترتب عن ذلك من تباعد في الأولويات السياسية والأمنية لكل من أمريكا وأوروبا، كل هذه العوامل دفعت وتدفع كلا من بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى التفكير جديا في مراجعة قراراتهم التي اتخذوها خلال السنوات الماضية، وأن الطرفين صارا مقتنعين بضرورة إيجاد صيغ جديدة لتقوية الموقف السياسي والاقتصادي والعسكري الأوروبي.

إحدى هذه الصيغ والأكثر احتمالية هي عودة بريطانيا للاتحاد الأوروبي. طبعا بريطانيا دولة مؤسسات، والاتحاد الأوروبي أيضا، ولذلك فإن هذا الأمر سيتطلب وقتا ليس باليسير، وتعقيدات تتعلق بما سيتطلبه ذلك من مصادقات شعبية (استفتاءات ومصادقات برلمانية)، ولذلك يحاول الثلاثي البريطاني الفرنسي الألماني تهيئ الأرضية لتسريع وتيرة كل ذلك من خلال محورين رئيسيين: أولهما تضخيم التهديد العسكري الروسي والترويج لاحتمالات غزو روسي لدول أوربية، وقد صار جليا اليوم بأن هذا الثلاثي يحاول بالفعل تصعيد المواجهات مع روسيا إلى درجاتها القصوى لوضع الشعوب الأوروبية في وضعية لا تستطيع معها رفض التقارب البريطاني مع الاتحاد الأوروبي في أفق صناعة اتحاد أوروبي جديد، ولعل القرارات الأخيرة التي أعلن عنها ترامب والمتعلقة بتزويد الدول الأوروبية بالأسلحة الثقيلة والمتطورة والبعيدة المدى من أجل أن تعيد هذه الأخيرة تصديرها إلى أوكرانيا، خير دليل على ما هذا التصعيد. لقد قررت أوروبا الدخول في صراع مفتوح مع روسيا.

ويتعلق المحور الثاني بنسج اتفاقيات اقتصادية وسياسية محدودة الأطراف ومعقدة تجعل من انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي من جديد تحصيل حاصل في غضون بضعة سنوات. خلاصة ما أسلفناه هو أن الاتحاد الأوروبي يعيش مرحلة إعادة الصياغة، وأن هذه الصياغة ستنتهي بتكوين نواة لاتحاد أوروبي جديد يشمل الدول الأوروبية الكبرى والغربية أساسا، وأن مجموعة من الدول الأعضاء سيتم تهميش دورها، وصولا إلى سحب عضويتها أو طردها من الاتحاد الأوروبي، ويتعلق الأمر هنا بالخصوص بكل من هنغاريا وبولونيا اللتين تعتبران حصى في حذاء النواة الغربية الصلبة للاتحاد الأوروبي، وأن الاتحاد الأوروبي في شكله الجديد سيشتمل على مؤسسات ذات طابع عسكري تهدف لحماية أوروبا من احتمالات تضاؤل الدور الأمريكي في الحلف الأطلسي أو انسحاب واشنطن منه، وربما يعمل هذا الثلاثي على بناء حلف عسكري أوروبي مستقل على خلفيات الحرب الأوكرانية، وأن استمرار أو توقف الحرب الأوكرانية، بناء على كل ما سبق، قد خرج بالفعل من يد أمريكا وصار شأنا أوروبيا خالصا، وأن الولايات المتحدة من جهتها ستوجه من الآن فصاعدا كل جهودها نحو المحيط الهادئ لمواجهة الصين، وأن المواجهات “غير الناعمة” بين الولايات المتحدة والصين قد صارت على مرمى حجر من زمننا الجيوسياسي، مع كل ما سيترتب عن ذلك من أزمات عابرة للقارات، وأن احتدام المواجهات بين الصين والولايات المتحدة من جهة وروسيا وأوروبا من جهة أخرى، سيشكل المكونات والمقادير الأساسية لصناعة حرب عالمية ثالثة تليق بنا وبما وصلناه من بشاعة وانعدام للإنسانية نعيش مظاهرها كل يوم، عاجزين عن فعل أي شيء.