نايف أكرد.. المسار الشائك الذي صنع محترفا ناجحا
ص
ص
في إحدى مساءات الخريف من سنوات بداية الألفية الحالية، كان اللاعب السابق لفريق النادي القنيطري نورالدين طونيا يمر بالقرب من ملعب مترب يجاور نهر سبو بمدينة القنيطرة، وبه أطفال لم يكن يتجاوز معظمهم سن العاشرة، يمارسون شغفهم الطفولي في مباراة كرة القدم، فلفت انتباهه وجود طفل نحيف كان يبدو أكثر طولا من أقرانه، وأكثر مهارة في مداعبة الكرة، وبعد سؤاله عن هوية عائلته، فوجئ طونيا أن الولد الصغير الواقف أمامه إسمه نايف أكرد، اللقب العائلي الذي يعرفه طونيا جيدا، كان سليل عائلة أكرد الرياضية الشهيرة بالمدينة التي لعب معه في “الكاك” أبوه وأعمامه لفترات طويلة.
إنتهت تلك الصدفة الجميلة بعرض نور الدين طونيا على نايف أكرد الإنضمام إلى الفئات الصغرى لمدرسة النادي القنيطري، والإتصال بأسرته لأخذ موافقتها على ذلك، وكانت بداية للمسار الكروي لطفل موهوب ومثابر، سيشق طريقه بعزيمة وإصرار إلى أن يصل إلى اللعب في أقوى دوريات العالم، متحديا الكثير من الصعوبات والعراقيل وسوء الحظ الذي كاد في بعض مراحل مسيرته أن ينهي علاقته بعالم كرة القدم.
إبن عائلة رياضية
في 30 مارس من عام 1996 بمدينة القنيطرة، رُزق سعيد أكرد وزوجته المعلمة بطفل سمياه نايف، سعيد كان لاعبا سابقا في صفوف النادي القنيطري، وشقيقيه عبد الحق وعبد المجيد أيضا لعبا في الكاك والمنتخب الوطني على عهد المدرب البرازيلي المهدي فاريا، هي عائلة “الكوايرية” كما عرف عنها وسط القنيطريين، ونايف أخذ الجينات الرياضية لعائلة أبيه، لكنّ والدته رفضت أن يستمر نايف في “إهدار وقته” بكرة القدم، وأرادت أن يركّز ولدها على التحصيل العلمي، والذي تميّز فيه أيضًا.
وعن ذلك يتحدث نايف أكرد: “لقد كانت والدتي ضد رغبتي، كانت تريد أن أدرس جيداً وألّا أركز كثيراً على كرة القدم، وتقول لي إنّ التركيز عليها يعتبر مغامرة كبيرة محفوفة بالمخاطر وأنّ ذلك لن يضمن لي مستقبلاً مريحاً “…” ولكنها الآن غيرت رأيها وفهمت أن رياضة كرة القدم يمكنها أن تكون هي أيضاً مهنة”.
وزاد نايف أكرد “كانت والدتي ضد كرة القدم، لكني أدرك جيداً أنها أرادت حمايتي. وهذا هو سبب رغبتي في مواصلة دراستي بعد الشهادة الثانوية، أردت أن أكون لاعباً محترفاً، لكني في نفس الوقت أردت أن أظهر لوالدتي أنني فهمت ما علمته لي”…”لقد نشأت مع والدتي منذ أن كنت في التاسعة من عمري، وكانت هي التي تتخذ القرارات في المنزل”…” لقد عملنا لفترة طويلة مع والدتي في الجانب النفسي لنجعلها تقبل أنني أريد أن أصبح لاعب كرة قدم”.
نايف أكرد لما التحق في سن مبكرة بمدرسة النادي القنيطري، رفضت والدته التوقيع على أي عقد يربطه مع الأندية، إلى أن تم إقناعها بأن ولدها سيواصل تحصيله الدراسي بالموازاة مع نشاطه الرياضي.
مسار محلي شائك
نايف أكرد رغم أنه سليل عائلة كروية معروفة في القنيطرة وفي المغرب بصفة عامة، إلا أن ذلك لم يكن ليفرش له الورود في مشواره الرياضي، وانتقاله بين الفئات السنية وبين فريقه الأم النادي القنيطري وأكاديمية محمد السادس لكرة القدم ثم الفتح الرباطي، فقد وجد نفسه مرارا مطالبا ببذل مجهود أكبر من زملائه، وإظهار إمكانياته البدنية والمهارية التي يمكنها أن تقنع مدربيه ومؤطريه، وأن يكون مثالا للفتى الخلوق المجد في التداريب ، الذي يحترم محيطه بعقلية احترافية منذ نعومة أظافره، بل إن نايف تعرض عند تنقله بين محطاته الأولى في المغرب إلى العديد من المطبات التي كادت أن تلقي به خارج عالم كرة القدم، منها إصابات بليغة في فترات حاسمة، مثل ما تعرض له يوما واحدا وهو يستعد للإنتقال إلى اللعب في إسبانيا بعد إتمام جميع التفاصيل، وأيضا التهميش الذي كان يتعرض له من طرف بعض المؤطرين المنتقصين من قيمته وإمكانياته، حتى أنه سمع مرات أحكاما صادمة بانه لا يصلح لكرة القدم وان بنيته الجسدية لن تساعده على الذهاب بعيدا في مشواره الرياضي.
قبل أشهر نزل ضيفا على زميله السابق في الفتح الرباطي فتاح بوخريص في بودكاست على يوتوب وحكى بالتفصيل عن مراحله الأولى في عالم كرة القدم بالمغرب، وكيف أن طفلا شغوفا بكرة القدم خرج من حي شعبي في القنيطرة، ليصل إلى اللعب في المنتخب الوطني، ويلعب في أقوى دوري في العالم ضمن نادي ويست هام العريق الإنجليزي، وكيف تحدى الكثير من المعيقات و العراقيل في مساره الكروي ليصل إلى ما وصل إليه، بداية من والدته التي كانت تمانع أن يلعب إبنها كرة القدم مخافة تأثيرها السلبي على مشواره الدراسي، ثم إلى الملاحظات المنقصة من موهبته ومن بنيته الجسدية التي تعرض لها من طرف بعض المؤطرين والمدربين، و أيضا فشل انتقاله إلى إسبانيا بشكل مفاجئ وقبل السفر في آخر لحظة، والإصابات التي تعرض لها في فترات حاسمة في تقرير مصيره الرياضي.
إبن العائلة الكروية المعروفة، روى أيضا بالتفصيل كيف صبر واجتهد وانضبط وطور مستواه في مراحل كثيرة من حياته، وكيف ضحى بأشياء كثيرة قد تغري شابا في سنه، من أجل أن يحقق حلمه في اللعب بأعلى المستويات، وأفصح عن كثير من تفاصيل الإختيارات الشجاعة التي اتخذها في رسم طريقه المستقبلي، وكيف ساعده مستواه الدراسي وتربيته على الإندماج السريع في منظومة كروية احترافية عريقة في فرنسا و إنجلترا.
مسار احترافي مثالي
لما كان نايف أكرد يلعب في نادي الفتح الرباطي تحت قيادة المدرب وليد الركراكي، وهو لم يصل إلى العشرين من عمره، كانت كل العلامات تشير إلى أن الولد تتوفر فيه كل الشروط ليصنع مشوارا احترافيا في أعلى مستويات كرة القدم، فعقليته المنضبطة ونضجه المبكر واحترامه للبرنامج اليومي للتدرايب، ومستواه الدراسي الجيد، وقدرته على التواصل مع محيطه، كل ذلك سيرافقه في أول تجربة احترافية خارج المغرب إلى نادي ديجون الفرنسي بعقد مدته 3 سنوات، مقابل 1.6 مليون يورو، وهناك طور من نفسه كثيرًا، وكان عليه التأقلم كما يصف ذلك بنفسه: “عندما وصلت إلى فرنسا شعرت بفارق كبير على المستوى التكتيكي والبدني”…” وكان علي أن أتأقلم. أضفت لنفسي دورات تدريبية للوصول إلى مستوى الآخرين الذين اعتادوا على العمل بهذه الطريقة. لكن إصابة عضلية تعرضت لها بعد أسابيع قليلة من وصولي إلى ديجون نغصت علي بداياتي في أوربا، قيل لي أن هذا أمر طبيعي لأن جسدي اكتشف طريقة جديدة للعمل.”.
مستويات نايف أكرد الجيدة في الدوري الفرنسي مع ديجون، أغرت نادي رين للتعاقد معه، فدفع لناديه 5 مليون يورو للظفر بخدماته، بعقد بدأ في 2020 ومدته أربع سنوات، وهناك تألّق بشكل لافت، لتجدد لاحقًا الإدارة التعاقد معه لعام إضافي.
في عام 2022 وأمام استمرار المستوى المبهر لنايف أكرد في مبارياته مع نادي رين، جاءه العرض الأهم في حياته الرياضية من العريق الإنجليزي ويست هام، فانتقل إليه مقابل 35 مليون يورو، ليصبح أغلى عملية بيع في تاريخ النادي، وثالث أغلى صفقة للاعب مغربي بعد أشرف حكيمي وحكيم زياش.
شخصية نايف أكرد وعقليته الإحترافية أفادته كثيرا أيضا وهو يندمج بسرعة في أجواء أقوى دوريات العالم وأكثرها صعوبة على جميع الأصعدة، فنال ثقة مدربه ديفيد مويس فأصبح أساسيا وسط تشكيلة من النجوم، وقدم مستويات مبهرة في مباريات الدوري والكأس والرابطة في إنجلترا وأيضا في المسابقات الأوربية.
لكن الإصابات التي لحقته في بعض الفترات أثرت على مستواه، سيما في وجود منافسة قوية على المراكز في ويست هام، ففقد رسميته وأصبح احتياطيا خلال مباريات عديدة الموسم الماضي، وأمام استمرار نفس الوضع مع مجيء المدرب الإسباني خوليان لوبيتيغي، فضل نايف أكرد تغيير الوجهة وخوض تجربة جديدة في إسبانيا وبالضبط في ريال سوسيداد النادي الباسكي التاريخي لمدينة فيتوريا.
وكالعادة حلول نايف أكرد في إسبانيا أبهر فيه مسؤولي ناديه الجديد، ووسائل الإعلام منذ تقديمه الرسمي وخوضه أولى التداريب مع الفريق، فقد وجدوا أمامهم شخصية لاعب محترف يتواصل بشكل جيد ويتحدث اللغة الإسبانية بطلاقة وله قدرة هائلة على الإندماج السريع مع جميع مكونات النادي لدرجة أن مدرب الفريق الأول إيمانويل ماكواسيل قال في حقه أيام قليلة بعد وصوله إلى فيتوريا: “نايف في هذه المدة القصيرة أصبح مندمجا في المجموعة أكثر من لاعبين آخرين جاؤوا قبل ثلاث سنوات”.
نايف المدافع الدولي
في فبراير 2015، تم استدعاء نايف أكرد لأول مرة للمنتخبات الوطنية من طرف المدرب عبد الله الإدريسي الذي كان ناخبا وطنيا لمنتخب أقل من 20 سنة، وفعل حسن بنعبيشة نفس الشيء مع إبن القنيطرة في المنتخب الأولمبي للمشاركة في دوري موريس ريفيلو بفرنسا، وكان يجاوره في الدفاع كل من بدر بنون وسعد آيت خورسا وحمزة مصدق.
كما لعب نايف أكرد في المنتخب الوطني المحلي بين سنتي 2016 و 2018 رفقة الإطارين الوطنيين امحمد فاخرو جمال السلامي، وكان أول ظهور له مع منتخب الكبار عندما استدعاه المدرب الفرنسي هيرفي رونار في لوائحه خلال المباريات الإقصائية لكأس العالم 2018 بروسيا، لكن وجود مدافعين بارزين مثل المهدي بنعطية، ورومان سايس، ومانويل داكوستا حرمته من المشاركة في النهائيات، ليعود ويصبح أساسيا في المنتخب الوطني بعد المونديال الروسي، إلى حين قدوم وحيد خاليلوزيتش بعد الإقصاء المخيب للآمال في كأس أمم إفريقيا بمصر 2019.
مع المدرب البوسني خاض نايف أكرد كأس أمم إفريقيا بالكاميرون2021 وتأهل لمونديال قطر 2022 وكان من أكبر المساهمين في الإنجاز التاريخي للمغرب مع المدرب وليد الركراكي بعد الوصل المبهر إلى الدور نصف النهائي.