story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من هيمنة الخبراء إلى سلطة الخوارزميات: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل خريطة الاستشارات العالمية والمحلية؟

ص ص

تشهد صناعة الاستشارات الدولية اليوم “تحولا بنيويا عميقا” مع الصعود المتسارع للذكاء الاصطناعي التوليدي – ذلك النموذج القادر على إنتاج محتوى مبتكر من نصوص وصور وأفكار انطلاقا من تعلمه الواسع من البيانات – حيث لم يعد هذا الذكاء مجرد أداة تقنية تكميلية، بل تحول إلى “منظومة معرفية جديدة” تعيد تشكيل خرائط القيمة وتوزيع الأدوار داخل السوق برمته. فبفضل قدرته على تحليل كميات هائلة من البيانات، وبناء نماذج تنبؤية عالية الدقة، وإنتاج محتوى استشاري لحظي من تقارير مقارنة إلى سيناريوهات استراتيجية، أصبح الذكاء الاصطناعي يقتحم المجالات التي كانت لوقت طويل “حكرا على الخبرة البشرية المتخصصة”. هذا التطور يزعزع أحد أعمدة النفوذ التقليدي للشركات الكبرى عبر” احتكار التحليل المعقد” وامتلاك طاقات بشرية ضخمة قادرة على معالجة ما لا يستطيعه غيرها. ومع توسع أدوات الذكاء التوليدي وتقارب قدراتها بين المستشار والعميل، تتقلص تدريجيا قيمة المهام التي شكلت أساس نموذج الاستشارة الكلاسيكي، ليتحول جوهر المنافسة إلى القدرة على “توجيه الذكاء الاصطناعي، وتأويل نتائجه، وتحويله إلى قرارات ذات أثر”.

وكشف النقاب عن ضخامة هذا التحول الإعلان الاستثنائي من “OpenAI” بتكريمها “McKinsey & Company” إحدى عمالقة الاستشارات الدولية التي تعنى بتوجيه القرارات وتحسين الأداء للحكومات والشركات العالمية، بعدما تجاوز استخدامها لمنصة “ChatGPT” عتبة فلكية بلغت 100 مليار توكن، وهي وحدات قياس لغوية تمثل كلمات وأجزاء كلمات، مما يعني أن الشركة الاستشارية العملاقة عالجت هذا الكم الهائل من الوحدات اللغوية في عمليات التحليل والمعالجة البياناتية التي أجرتها. ويمثل هذا الرقم الضخم أكثر من مجرد مؤشر استخدام؛ إنه إعلان ضمني بتحول جذري في “البنية التحتية المعرفية” لصناعة الاستشارات. فما كان يوما حكرا على العقول البشرية المدربة في مكاتب “ماكنزي” أصبح اليوم ينجز – ولو جزئيا – عبر وكلاء ذكاء اصطناعي. هذه العلاقة التكافلية بين عمالقة الاستشارات وأدوات الذكاء الاصطناعي لا تعكس فقط اعتمادا تقنيا، بل تشير إلى إعادة تشكيل جذرية لسلسلة القيمة المعرفية برمتها. لقد أدركت “ماكنزي” أن صمودها في عصر الذكاء الاصطناعي رهين بتحول مستشاريها من “موردين للمعرفة” إلى “قادة للخوارزميات”. فسارعت إلى تدريب فرقها على التفاعل الإبداعي مع هذه الأدوات، لإعادة اختراع قيمة “المستشار البشري” حينما لم تعد المعرفة حكرا عليه.

وبخطوة استباقية تعكس عمق التحول في صناعة الاستشارات، أطلقت “أكسنتشر” عملاق الاستشارات والتقنية، أكبر مبادرة تدريبية في تاريخ القطاع، باستثمار قدره مليار دولار سنويا في التعليم التكنولوجي المعزز بالذكاء الاصطناعي. وتستهدف المبادرة الطموحة تأهيل 700 ألف موظف عبر تقديم 40 مليون ساعة تدريبية، لتمكينهم من إتقان العمل مع “الذكاء الاصطناعي الوكيلي” الجيل النوعي الذي يتحول بالذكاء الاصطناعي من “أداة تفاعلية” تنفذ الأوامر إلى “شريك ذكي” قادر على “التخطيط المستقل” و”اتخاذ القرارات المعقدة”، مما يضع الشركة في صدارة السباق العالمي لإعادة تعريف مستقبل الخدمات الاستشارية. فبخلاف نماذج المحادثة التقليدية، يصمم هذا النموذج “وكلاء رقميين” أذكياء يستطيعون تخطيط مهام متشعبة، وتنفيذها، واتخاذ قرارات تشغيلية واستراتيجية بشكل “شبه مستقل”. وعبر هذا الرهان الاستباقي، تعلن “أكسنتشر” أن ساحة التنافس المستقبلية لن تكون على امتلاك الأدوات التقنية نفسها، بل على القدرة البشرية المتميزة على قيادة الوكلاء الأذكياء ودمجهم في صميم عمليات خلق القيمة. إنها إعادة تعريف جذرية لجوهر الخدمة الاستشارية في عصر يقاس فيه التميز بمهارة توظيف الذكاء الاصطناعي كقوة تحليلية وتنفيذية فاعلة، لا مجرد أداة مساعدة.

وبتخطيط استراتيجي يسابق الزمن، أعلنت الإمارات عن خطوة غير مسبوقة عالميا بتعيين “مستشار وطني ذكي” في هيئاتها الوزارية والحكومية اعتبارا من يناير  2026. وسيشارك هذا النظام الذكي في اجتماعات مجلس الوزراء والهيئات الاتحادية، مقدما تحليلات استراتيجية ورؤى مستقبلية مستندة إلى قراءة شاملة لقواعد البيانات الوطنية. ورغم عدم تمتعه بحق التصويت، إلا أن قدرته الفائقة على محاكاة السياسات وبناء سيناريوهات تنبؤية دقيقة ستمكنه من تقديم استشارات آنية تدعم صناعة القرار في أعلى المستويات. وتمثل هذه المبادرة تتويجا لاستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي منذ 2017، والتي انتقلت بالتقنية من دائرة الدعم الاستشاري إلى قلب آلة صنع القرار. ومن المتوقع أن تحذو دول رقمية رائدة مثل سنغافورة وإستونيا وكوريا الجنوبية حذو هذا النموذج، مما يضع شركات الاستشارات التقليدية أمام تحول وجودي. فالرهان المستقبلي لم يعد على من يملك الأدوات، بل على من يجيد تحويل هذه القدرات التقنية إلى قيمة استراتيجية مضافة.

إلى جانب القوة الحسابية الهائلة، كشف انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي وقواعد البيانات المفتوحة هشاشة أحد أعمدة التفوق التقليدي للمؤسسات الاستشارية من “احتكار المعرفة والخبرة المتراكمة”. فالأدوات التي كانت حكرا على المستشارين أصبحت اليوم في متناول العملاء أنفسهم، ما يجعل القيمة الفعلية لا تكمن في جمع المعلومات أو تلخيصها، بل في القدرة على توجيه الذكاء الاصطناعي، وقراءة السياقات السياسية والتنظيمية، وترجمة النماذج التنبؤية إلى قرارات فعالة. ومع صعود وكلاء ذكاء اصطناعي قادرين على مراقبة التنفيذ في الزمن الحقيقي واقتراح تدخلات تصحيحية مستمرة، بات بإمكان المؤسسات بناء “مستشار رقمي داخلي” يقلص “اعتمادها على الخدمات الخارجية”. وقد بلغ التحول ذروته حين أصبح العميل والمستشار يستخدمان الأدوات التحليلية ذاتها، ما يطرح سؤالا وجوديا حول جوهر القيمة المتبقية. وفي ظل هذا التماثل، لم يعد التفوق مرهونا بالأدوات، بل بأربع ركائز حاسمة: 1-الحكم البشري الذي يمنح معنى للمعطيات؛ 2-الفهم العميق للسياق المؤسسي والبيئي؛ 3-القدرة على تنفيذ التوصيات وتحويلها إلى نتائج ملموسة؛ ثم 4-مهارة قيادة الذكاء الاصطناعي وتطويعه. وهكذا يتجه مستقبل المهنة نحو نموذج يندمج فيه الذكاء الاصطناعي بالذكاء الاستراتيجي، ويصبح فيه المستشار أقرب إلى “مهندس قرارات” يعمل في بيئة تشاركية تمتلك فيها الحكومات والشركات المنظومة نفسها من القدرات الذكية.

وتشهد صناعة الاستشارات في المغرب لحظة مفصلية، حيث تفرض التحولات العالمية ضرورة تبني النماذج الذكية. ورغم الطموحات التي تطرحها استراتيجية “المغرب الرقمي 2030″، إلا أن الممارسة الميدانية تكشف عن فجوة عميقة بين الشكل والجوهر في التعامل مع التقنية. فالعديد من المؤسسات المغربية لا تزال تخلط بين “الرقمنة” و”التحول الرقمي”، فرقمنة الأرشيف، أو نقل العمل الورقي إلى واجهة إلكترونية دون تغيير جوهر العملية، أو إطلاق بوابة لتلقي الطلبات بينما تستمر المعالجة يدويا في الخلفية، ليست سوى تحديث شكلي يخفف بعض الإجراءات لكنه لا يعيد بناء الخدمة. أما “التحول الرقمي” الحقيقي فيتجسد في إعادة تصميم النموذج كاملا بالاعتماد على البيانات والذكاء الاصطناعي، كما هو الحال في تسيير النقل الحضري عبر نظام ذكي يحلل حركة المرور لحظيا ويعيد توجيه الحافلات أو تنظيم الإشارات الضوئية تلقائيا، أو استعمال الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالازدحام في المستشفيات وتوجيه المرضى تلقائيا إلى أقرب نقطة علاج ذات توفر أعلى. وهكذا يتجاوز التحول الرقمي مجرد “رقمنة” الوثائق نحو خلق منظومات جديدة أكثر سرعة وشفافية وفعالية، بينما تبقى الرقمنة مجرد خطوة تقنية محدودة الأثر إذا لم ترفق بإعادة هندسة شاملة للعمليات والخدمات. هذه الفجوة تجعل الحديث عن تبني “الذكاء الاصطناعي التوليدي” أو “الوكيلي” – الذي يصمم خطط عمل مستقلة – أشبه بتشييد الطابق العاشر في مبنى لم تكتمل أساساته بعد.

وقد عكس تنظيم أول مناظرة وطنية للذكاء الاصطناعي في يوليوز 2025، وإطلاق المشاورات حول قانون إطار للذكاء الاصطناعي، إدراكا “رسميا” لوزن التحول العالمي وضرورة تأطيره مؤسساتيا ضمن مسار تحديث الدولة. لكن هذه الدينامية تتعثر أمام إشكالية بنيوية تتمثل في الهشاشة الأمنية الرقمية، حيث يشهد المغرب تناقضا صارخا بين تسارع وتيرة الرقمنة من ناحية، وتصاعد مخاطر الاختراق والاستغلال غير المشروع للبيانات من ناحية أخرى. وتكشف كذلك عن مخاوف مرتبطة بتغلغل “الخوارزميات” في صناعة القرار العمومي، حيث تتيح القدرة الهائلة على تحليل البيانات وبناء “سيناريوهات تلقائية” إمكانية الانزلاق نحو اعتماد نماذج قرار قد تغيب عنها الحساسية السياسية والاجتماعية المحلية، أو تعيد إنتاج “تحيزات البيانات” دون رقابة كافية. من هنا تبرز الحاجة إلى نموذج مغربي يوازن بين فرص الذكاء الاصطناعي ومخاطره، عبر الاستثمار في كفاءات بشرية قادرة على “قيادة الخوارزميات” وتفسير مخرجاتها، وتطوير آليات أخلاقية وقانونية تضمن الشفافية، إلى جانب دعم المكاتب المغربية لتطوير قدراتها التحليلية حتى لا يتحول السوق الوطني إلى فضاء تحتكره الشركات الدولية. فالتحدي في النهاية لا يكمن في امتلاك البيانات أو قوة النماذج، بل في تحويل الذكاء إلى قيمة مضافة داخل مؤسسات خاضعة “للمساءلة”، وهي المعادلة التي ستحدد مستقبل المغرب داخل خريطة الاستشارة العالمية خلال العقد القادم.لقد انتقل الذكاء الاصطناعي من دور الأداة المساندة إلى بنية معرفية تتولى مهام التحليل، وصياغة السيناريوهات، وإنتاج القيمة التي احتكرتها الشركات الاستشارية الكبرى لعقود. هذا التحول الجذري لا يعيد فقط تشكيل قواعد المنافسة، بل يضع المهنة برمتها أمام اختبار وجودي. فما الذي يتبقى من دور المستشار حين تصبح الخوارزميات قادرة على إنجاز جوهر العمل الاستشاري؟ وكيف يمكن للخبرة البشرية أن تستعيد قيمتها في بيئة تتسارع فيها الأتمتة ويتقلص فيها الفرق بين المستشار والعميل؟ والأهم، كيف سيتكيف المغرب مع هذا الضغط العالمي في ظل سوق محلي يعيش انتقالا لم تستقر ملامحه بعد؟ هذه الأسئلة تبقى مفتوحة، وهي التي ستحدد مستقبل الاستشارة في السنوات المقبلة.