story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

من غزة إلى طنجة

ص ص

صباح هذا اليوم الاستثنائي الذي سيشهد تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، ليدشن ولايته الثانية بعدما خرج من البيت الأبيض قبل أربع سنوات إثر هزيمة انتخابية لم يعترف بها؛ هناك عالم جديد يولد بملامح لا يمكن تبيّن تفاصيلها الكاملة، لكنها ستكون، دون شك، مطبوعة بالملحمة التي وقّع عليها فلسطينيو غزة، بصمودهم الأسطوري في وجه الآلة العسكرية الغربية بكل ما تعنيه من قوة وجبروت وتطوّر تكنولوجي.

من حقّنا هذا الفرح الطفولي الذي تقاسمنا تردّداته، أمس الأحد 19 يناير 2025، كما تتقاسم الطبقات التكتونية الترددات الزلزالية. فكل من آمن بغزة طيلة شهور العدوان والإبادة، لم يكن في الحقيقة يؤمن سوى بنفسه.

لم يكن أبطال المقاومة الفلسطينية طيلة الشهور الماضية مجرّد أبناء أرض يستميتون في الدفاع عنها ويقدّمون أراوحهم ودماءهم فداء لها، بل كانوا وحدهم يقاتلون نيابة عن البشرية جمعاء، لأن قضيتهم لا تهمّهم وحدهم، بل هي قضية كل صاحب ضمير.

البعد الكوني الذي حاول مؤسسو ومحتضنو إسرائيل إعطاءه لدعمها، ومحاولتهم جعلها مرادفا للضمير الإنساني (الزائف طبعا)، وسعيهم إلى منح وجود كيان لقيط وظالم شرف تمثيل الإنسانية وتصحيح الجرائم التاريخية التي تعرض لها اليهود في أوربا؛ كل هذا جعل الدفاع عن القضية الفلسطينية يتخذ هذا البعد الكوني والإنساني الصادق الذي رأيناه طيلة الشهور الماضية.

كل من ناصر فلسطين أو دافع عن حقها في الحرية، هو في الحقيقة إنسان مؤمن بالعدالة والإنصاف، وهو ما قادت غزة معركة إنقاذه بكل شجاعة وإقدام.

سوف لن نضيع الوقت في محاولة إقناع أي كان، بأن ما حصل خلال الأسبوع الماضي هو توثيق لنصر ساحق حققته قلةّ قليلة ومعزولة ومحاصرة في وجه تحالف دولي أحمق. وأجمل ما قرأته في اليومين الماضيين عبارة تقول إنك لن تنجح في إقناع المهزوم أصلا بانتسابه إلى الفريق المنتصر.

لنترك المهزومين لهزيمتهم. ولنرفع بصرنا نحو الأفق لاستطلاع ما بعد هذه اللحظات الخالدة التي أهدتنا إياها المقاومة الفلسطينية، وهي تخرج أسرى المحتلّ بكامل الطقوس والمراسم التي تليق بدولة مكتملة الأركان، وتسلّمهم لذويهم سالمين مبتسمين، بينما الأسرى الفلسطينيون يخرجون من سجون الاحتلال أشبه بمن كان يخضع للتعذيب المستمر.

هذه بعض من عناوين أفق ما بعد وقف إطلاق النار، من زاوية نظر مغربية ووطنية خالصة:

• القضية الفلسطينية جزء من وجدان المغاربة ولا يمكن اقتلاعها أو تزييف الوعي حولها مهما حاولت الآلة المتمسّحة بأعتاب الصهيونية. الشك الذي تسرّب إلى نفوسنا قبيل طوفان الأقصى تجاه مكانة القضية الفلسطينية في قلوب المغاربة، بعد الصمت المريب الذي ساد عقب الهجمة التطبيعية التي ركبت على لحظة توقيع الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي؛ لم يعد له أي محلّ من الإعراب، بعد التعبيرات الشعبية القوية التي وقّع عليها المغاربة طيلة شهور العدوان؛

• ما زالت هناك بقية من تعقّل وحكمة عند الدولة المغربية، ولا يمكن أن تنطلي علينا بعد الآن المقولات التي حاول البعض ترسيخها، من كون دولتنا فقدت البوصلة وسلّمت زمام أمورها للكيان الإسرائيلي وحلفائه. نعم، حق التظاهر والاحتجاج والتجمّع مكفول دوليا ودستوريا لجميع المغاربة، وممارسته ليست منحة ولا منّة من أحد؛ لكننا لم نصل بعد مرحلة الديمقراطية على النمط الاسكندنافي، ومحيطنا الإقليمي يسمح بكل أنواع القمع والتنكيل، ولابد أن تكون لنا الشجاعة الكافية لنشيد بتعاطي السلطات المغربية مع التعبيرات الشعبية المساندة لفلسطين. ولا ينقص هذا السلوك سوى الإفراج الفوري عن المعتقلين وإسقاط المتابعات عن الملاحقين، بسبب تعبيرات مرتبطة بهذه القضية.

• أصبح هناك ما قبل وما بعد طوفان الأقصى، وعلى الجميع، سلطات وهيئات سياسية ومدنية، أن يستحضروا هذا التحوّل الذي أسست له غزة بمعركتها الخالدة. لم يعد هناك مجال لتبرير التراجعات السياسية والحقوقية بالسياق الإقليمي والثورات المضادة… هناك انسان جديد، يجسّده جيل جديد، ارتوى وعيه من مشاهد العزة والكرامة والصمود، سوف لن يقبل منا أية ممارسة أو تبرير للاستبداد والغطرسة وهضم الحقوق. الفرصة أمامنا كبيرة للقيام بالمصالحات الضرورية بكل شجاعة ودون أدنى مركب نقص ولا منطق غالب ومغلوب. مسارنا السياسي التعددي والديمقراطي والمفتوح يجب أن يستأنف طريقه من جديد، ومعاول الهدم والتخريب العاملة إلى اليوم في حقول السياسة والمال والصحافة وحقوق الانسان، مكانها مستودع المتلاشيات ومتحف الذاكرة.

• أسطورة ارتباط مصير وحدتنا الترابية بالانبطاح لإسرائيل سقطت مع سقوط أسطورة الاجتياح الإسرائيلي لغزة والقضاء على حماس واسترجاع الأسري وتنصيب قوات عربية متحكّم فيها إسرائيليا… نعم لم نحصل على شرف قطع العلاقات مع دولة الاحتلال حتى وهي ترتكب الجرائم وتمعن في الإبادة، لكنّ هذا لم يمنعنا من التعبير عن موقف الدعم والمساندة لفلسطين والفلسطينيين، بشكل محتشم رسميا نعم، لكن بشكل صريح وواضح شعبيا وبشكل غير مباشر رسميا، عندما كانت القوات العمومية تسبق المتظاهرين إلى الساحات لتأمين وتنظيم المسيرات الشعبية. ليس لإسرائيل ما يمكنها أن تقدّمه للمغاربة سواء في قضيتهم الوطنية الأولى أو في غيرها، وقوتها العسكرية مجرّد أكذوبة تروّجها الدعاية التضليلية.

أخيرا، هناك مصالح كبيرة وحيوية تجمعنا بالولايات المتحدة الأمريكية، الراعي والحامي الأول لإسرائيل. ونحن في بدايات العهدة الثانية لدونالد ترامب، هناك الكثير الكثير من المصالح التي يمكننا تحقيقها. لا مجال للطوباويات الفارغة، ولا عاقل يمكنه مطالبة الدولة المغربية بتأسيس سياستها الخارجية على الموقف من القضية الفلسطينية وحدها، فلا قوتنا ولا أوراق تفاوضنا تسمح لنا بذلك، لكن لا داعي أيضا للكذب علينا ومحاولة إقناعنا بأن واشنطن تقايض مصالحنا بانبطاحنا لإسرائيل. نعم هذه الأخيرة جزء راسخ من السياسة الخارجية لأمريكا، لكن واشنطن لا تنتظر منا هذا الانبطاح، ولا تراهن عليه لحماية إسرائيل، بل لها مصالح حيوية أخرى في منطقتنا وفي قارتنا، تكفينا في التفاوض على مصالحنا معها. العبرة هنا بشطارة من يدبّرون ويفاوضون، وليس بأطماع ومصالح المتصهينين الذين يحاولون اختراق الدولة وتضليل المجتمع.

لقد خلّف حديث الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، المعروف بلقب “أبو عبيدة”، انشراحا كبيرا في أوساط المغاربة لمجرّد نطقه اسم مدينة طنجة عندما حاول أو يوجّه التحية للعالم الإسلامي كله واستعمل عبارة من “طنجة إلى جاكرتا”. وهي العبارة الذي كان لها مفعول المواساة بالنسبة لمن يشعرون بجرح في كبريائهم بسبب استمرار العلاقات الرسمية بين المغرب وإسرائيل.

ومثلما كانت مدينة طنجة بالفعل، واحدة من المنصات الأساسية التي بعثت الرسائل الصحيحة من المغرب إلى فلسطين، في ظل العجز الرسمي عن التعبير بالشكل الذي يوافق المشاعر الشعبية، هناك هذه الحزمة من الرسائل التي تم إرسالها في الاتجاه المعاكس، من غزة إلى طنجة.