story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من دستور الأسد إلى مسودة الشرع: سوريا تبحث عن هويتها السياسية والدستورية

ص ص

تتسارع الأحداث في سوريا بشكل يجعل من الصعب متابعة مجريات الأمور بنفس السرعة، لكن هناك لحظات معينة في المراحل الانتقالية تتسم بأهمية كبيرة في رسم معالم الدولة المستقبلية، ومن أبرز تلك اللحظات، هي عملية تشكيل التعاقد السياسي، وبالأخص التأسيس لدستور جديد.

مما هو معلوم أن الدستور هو الوثيقة القانونية الأساسية التي تحدد نظام الحكم، حقوق المواطنين، والعلاقة بين السلطات داخل الدولة، ويعد ذا أهمية بالغة، لأنه يوفر الإطار التعاقدي، كما يحدد الأسس السياسية التي تحدد قواعد النظام السياسي، وتضمن الحقوق والحريات، كما تزداد أهمية الدستور في المراحل الانتقالية بشكل استثنائي، لما له من تابعات على مصير ومسار الدولة.

ولان الانتقال السلمي من نظام سياسي إلى آخر يتطلب توافقًا اجتماعيًا، فالدستور هو الأداة لضمان هذا الانتقال، كما يجب أن يعكس التنوع الاجتماعي والسياسي ويُؤمّن استمرارية الحقوق والحريات العامة.

من جهة ثانية، الدستور يصبح أكثر تعقيدًا في المراحل الانتقالية، خصوصا التي تلي التحولات السياسية الكبرى، مثل الثورات أو تغيير الأنظمة، ففي هذه المراحل، يُعد الدستور أداة حاسمة لضمان الاستقرار السياسي، وتحديد شكل النظام الجديد، والحفاظ على حقوق المواطنين بعد فترات من الفوضى أو التحولات العميقة.

في سياق أحداث 2011 والمعروفة بالربيع العربي أو الربيع الديمقراطي، شهدت شمال إفريقيا والشرق الأوسط، عددًا من التجارب الانتقالية، وعبرها التأسيس لدساتير جديدة بعد سقوط الأنظمة السابقة، مثلما حدث في مصر وليبيا وتونس، ففي مصر مثلا، تم إصدار الإعلان الدستوري في 2011 من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب سقوط حسني مبارك، وفي ليبيا أصدر المجلس الوطني الانتقالي إعلانًا دستوريًا بعد سقوط نظام القذافي، وفي تونس بعد انهيار نظام بن علي.

اليوم يأتي دور سوريا، والتي اتخذت أحداث 2011 فيها مسارًا مختلفًا، حيث بعد أكثر من 14 سنة، تقف سوريا أمام مرحلة هامة في تشكيل الدولة عقب انهيار النظام السابق، وهي “لحظة الدستور”، اذ وقع أحمد الشرع الرئيس الانتقالي في سوريا، إعلانًا دستوريًا أو بشكل أدق مسودة للإعلان الدستور بتاريخ 13 مارس 2025.

فما هي القراءة الممكنة لهذا الإعلان الدستوري؟ وإلى أي مدى يمكن أن يسهم هذا الدستور في تأمين المرحلة الانتقالية؟ خصوصا في ظل المخاطر الاستثنائية التي تواجهها سوريا من حيث الوضع الجيوسياسي، وانتشار السلاح، والطائفية.

قبل أن نتفاعل مع هذا السؤال، يمكننا أن نتوقف باختصار عند أهم مراحل الحياة الدستورية في سوريا، قبل الانتقال لقراءة سريعة في بعض ما أعلن من بنود هذا الإعلان.

دساتير سوريا: من المملكة السورية إلى دستور الجولاني

يمكن القول إن أول دستور لسوريا، إذا استثنينا الدستور العثماني لعام 1867، هو دستور المملكة السورية العربية لعام 1920، الذي تم وضعه في عهد الملك فيصل الأول ، وكان الدستور مستمدًا بالدرجة الأولى من الدساتير الأوروبية، خصوصًا تلك الخاصة بالأنظمة الملكية الاوروبية، من معالم ذلك تنصيصه على علمانية الدولة مع تحديد ديانة الملك بالإسلام، لكن هذا الدستور تم إلغاؤه بعد استعمار سوريا من قبل فرنسا، و لم يعمر طويلا، فرنسا التي اتبعت سياسة التفرقة وعزل بعض الأقاليم، مما أدى إلى تقسيم سوريا إلى مناطق متعددة عرقياً وطائفيا و اثنية .

لم يكن الدستور المذكور المشروع الوحيد، لأنه خلال فترة الانتداب الفرنسي، عملت الكتلة الوطنية على وضع دستور هذه المرة يفضل نظامًا جمهوريًا، لكن هذا الدستور خرج إلى الوجود بما يتماشى مع رغبات فرنسا المتحكمة في الحياة السياسية السورية آنذاك.

بعد الاستقلال، تم وضع دستور 1950 الذي لم يصمد طويلًا هو الاخر ، هذه المرة أمام دبابات الجيش السوري، التي قررت تولي زمام الأمور، وبعد تجربة الوحدة مع مصر، جاء الانقلاب الأكثر أهمية في تاريخ سوريا، انقلاب حافظ الأسد، ومن المعروف أن سوريا كانت من أكثر البلدان التي شهدت انقلابات في المنطقة، ففي ظل حكم الأسد الأب، شهدت سوريا استقرارًا دستوريًا نسبيًا، حيث عاش دستور 1973 طويلًا، وكان هذا الدستور هو المؤسس لنظام الحزب الواحد، حزب البعث، و كما كان يؤمن بنظام الحزب الواحد، يبدو أن الأسد الأب كان مؤمنًا أيضا بالدستور الأبدي الواحد، حيث ظل الشعب السوري تحت احكام دستور الأسد لما يفوق ثلاثة عقود، لكن في سياق أحداث 2011، وجد ابن الأسد بشار نفسه ملزما بتعديل الدستور و ذلك في محاولة لتهدئة “الثورة” واحتواء موجة الغضب، دستور لم يتمكن من تحقيق غايته تلك و بعد سنوات من الاقتتال والحرب الأهلية، عادت سوريا الى لغة الدساتير بعد سنوات من حوار السلاح، و ذلك من الإعلان الدستوري ليوم 13 مارس 2025، الذي يهدف إلى تأسيس دستور للدولة السورية الجديدة، و إنهاء مرحلة الاقتتال .

قراءة أولية في الإعلان الدستوري السوري 2025

أولاً، يجب التذكير بأن الإعلانات الدستورية تتميز ببعض الخصائص تختلف عن الوثيقة الدستورية الدائمة أو الأصل، أولها الطابع المؤقت، حيث تهدف عادةً إلى وضع إطار قانوني لتنظيم الحياة السياسية خلال فترة معينة، يفترض ان تكون قصيرة، في انتظار وضع دستور دائم أو العودة إلى النظام الدستوري العادي، كما تأتي الإعلانات الدستورية غالبًا ضمن عملية تأسيس نظام دستوري جديد أو تصحيح نظام قائم في فترات التغيير السياسي، وهي بالضبط ما ينطبق على الحالة السورية، دون ان ننسى انه من حيث الشكل يكون مختصر جدا لان غاياته توقيف حالة الفوضى و التمهيد، و قد تترك الكثير من التفاصيل للجنة التي يعهد لها وضع دستور نهائي.

والملاحظ ان الإعلان الدستوري السوري جاء كذلك، و يتكون من مقدمة وأربعة أبواب، أي ما مجموعه 53 فصلًا، عرضت خطوطها للعلن، انطلاقا منها يمكن تسجيل خمس ملاحظات أساسية حول هذا الإعلان:

أولًا: مدة انتقالية طويلة

حددت مسودة الإعلان الدستوري السوري التي وقعها أحمد الشرع مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، وهي مدة طويلة مقارنة بالتجارب الأخرى في المنطقة، فمثلًا، عقب سقوط نظام مبارك في مصر، تم تحديد المدة الانتقالية بستة أشهر، وفي تونس لم تتجاوز المدة الانتقالية ثلاث سنوات، بل حتى السودان لم يتجاوز تحديد المدة أربع سنوات، عمومًا، من النادر أن تصل المدة الانتقالية إلى خمس سنوات.

ثانيًا: الاستقرار على هوية الدولة

نظرًا لأن هوية الدولة وتسميتها استقرت عليها جل الدساتير السورية، اعتبر الإعلان أن الأمر يتعلق بعرف دستوري يجب الاستقرار عليه، وبالنظر إلى أن الدين جزء من هوية الدولة، استقر الإعلان على عدم تحديد دين الدولة لكن تم تحديد ديانة رئيس الجمهورية الذي ينبغي ان يكون مسلما،  معتبرًا إياه توافقًا مع ما تركه الأجداد، مع إبقاء الفقه الإسلامي مصدرًا أساسيًا للتشريع، و نسجل أن هذه الملاحظة قد تكون عادية في بعض التجارب، غير ان التجربة السورية استثنائية في كل شيء، و على رأس الاستثناء رئيس الجمهورية القادم من خلفية “جهادية”، نحن أمام فصل دستوري قد يكون فحواه منافيًا للبيئة التي نشأ فيها الشرع و قادته للسلطة، وما حمل هو ومن معه السلاح ضده، و من كان يراهن ان تكون هذه المقتضيات في جمهورية من تزعم جماعة صنفت إرهابية، و نحن بالكاد نصدق أن الشرع قبل بالجمهورية عوض الجماعة، و الدستور و قانون وضعي، عوض قواعد دينية.

ثالثًا: تجريم كل ما يتعلق بنظام الأسد

على خلاف العديد من الإعلانات المشابهة، شدد الإعلان الدستوري السوري الخناق على كل ما يتعلق بنظام الأسد إلى حد التجريم، حيث جاء فيه: “تجرم الدولة تمجيد نظام الأسد ورموزه”، بل اعتبرت أن “إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها جرائم يعاقب عليها القانون”.

رابعًا: بوادر احتجاج طائفي

رغم تنصيص الإعلان على كون حرية الاعتقاد مصونة، وأكد على أن “الدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام”، بالإضافة إلى تأكيده على احترام الخصوصيات الثقافية، إلا أن اشتراط الاسلام كدين لرئيس الدولة، و الفقه الإسلامي مصدرًا أساسيًا للتشريع، يبعث على الكثير من المخاوف من اظطهاد المكونات الدينية الأخرى للشعب السوري، و في هذا الباب لم تتأخر الإدارة الذاتية الكردية، التي سرعان ما اعتبرت أن هذه المقضيات التي جاءت في الإعلان الدستوريو، “تتنافى” مع تنوع سوريا، رغم أن الأخيرة جمعتها قبل يومين اتفاقات بالإدارة الجديدة.

خامسًا: استمرار تغول رئيس الجمهورية

من الملاحظات التي يمكن تسجيلها على الإعلان، هي الصلاحيات الواسعة التي منحها الإعلان الدستوري لرئيس الجمهورية، ويبدو ذلك جليًا من خلال ثلاثة عناصر: تعيين المحكمة الدستورية من قبل رئيس الجمهورية، تعيين ثلث أعضاء مجلس النواب من طرف رئيس الجمهورية، وحصر السلطة التنفيذية بشكل حازم في يد الرئيس بمبرر “المرونة”.

ونود الإشارة أيضًا في هذا السياق، و ارتباطا بالتغول المشار إليه، إلى الطابع التعيني للجنة التي ستُعهد إليها مجموعة من المهام، بما في ذلك تعيينها لعدد من نواب الشعب، اللجنة التي ستعين بدورها مباشرة من طرف رئيس الجمهورية احمد الشرع، مما يمكن اعتباره مجازفة بمصير سوريا، و وضع شق كبير منه في يد رجل واحد هو، بل يمكن بإطلالة على خطاطة السلطات، نلحظ بشكل واضح ارتباط جل خيوط اتخاذ القرار في سوريا الجديدة برئيس الجمهورية.

في الأخير، تجدر الإشارة الى أن هذه الملاحظات تظل محاولة لفهم أهداف الإعلان الدستوري ونواياه الظاهرة، الذي سيظل رهينة للصيغة النهائية التي سيصدر بها، وطبيعة الممارسة التي ستحدد كيفية تفعيل بعض القواعد، إلى جانب التطورات العسكرية الميدانية، ولربما اقتناع كل الطوائف السورية به.