story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

من الرباط إلى تاهلة… في قطار بلا تنمية

ص ص

في كل مرة أعود فيها من الرباط، حيث أقيم منذ سنوات، إلى مسقط رأسي “تاهلة” بإقليم تازة، لا أشعر فقط بتغيير سلبي في وتيرة الحياة أو مستوى الخدمات، بل بتفاوت صارخ في منطق التنمية ذاته.

من الرباط إلى تاهلة، المسافة تتجاوز الجغرافيا لتكشف عن خلل عميق في التنزيل الترابي للتنمية، وفشل بنيوي في تحقيق العدالة المجالية التي وُعد بها المغاربة وتمت دسترتها سنة 2011.

عشرُ سنوات مرت على تبني المغرب لخياره الدستوري في “الجهوية المتقدمة” كرافعة لتقليص الفوارق المجالية وترسيخ الديمقراطية المحلية وتمكين الجهات والجماعات من صلاحيات حقيقية في تخطيط السياسات العمومية الترابية وتنفيذها. غير أن الواقع، كما تبرزه تاهلة والعديد من المدن المتوسطة والصغرى، يظهر هذا المشروع بقي رهين خطابٍ للإستهلاك أكثر منه مشروع ذو راهنية في التنزيل.

ففي محور الرباط–الدار البيضاء، تشهد البنيات العمرانية والاستثمارية دينامية لافتة تغذي اقتصادا محليا متسارعا، بينما تعيش المناطق الهامشية جمودا بنيويا يتجلى في البنية التحتية الهشّة وفرص الشغل شبه المنعدمة، مع ارتباك دائم في تقديم أبسط الخدمات الأساسية.

ضمن هذه المعادلة، لم تنجح الجماعات المحلية في أن تُنقل من منطق التدبير اليومي المنتظم بين إصلاح طريقٍ هنا أو تسيير سوقٍ هناك، إلى فاعل تنموي قادر على التخطيط واستشراف المستقبل وجلب الاستثمارات. فالفرق لا يقتصر على حجم الميزانيات أو تباين الموارد المالية بقدر ما يتعلق بإرادة سياسية وترابية متكاملة تسمح للجماعات الترابية بالتركيز على مشاريع تنموية استراتيجية بدل الاقتصار على المهام الروتينية. وهذا لا يعني أن الخلل في التمويل فقط، وإنما في غياب رؤية إدارية تسمح بفك أسْر الجماعات المحلية من طابعها البيروقراطي.

فالرؤية الحكومية التي تتحدث عن “الانتقال نحو التدبير العمومي الحديث” و”مقاربة النجاعة والحكامة” تبدو مقصورة على المصالح الوزارية الكبرى؛ من جهة تبنيها التدريجي لمبادئ الرقمنة وربط الأداء بالمردودية. أما في المرافق الترابية فلا يزال الفاعل الإداري المحلي عاجزا عن توفير الحد الأدنى من المناخ المؤسسي الذي يضمن الانتقال من تدبيرٍ تقليدي إلى تدبيرٍ مستجيب لرهانات التنمية. فكيف يمكن لجماعة محلية تعاني من عجز دائم في ميزانيتها وتعتمد في أغلب الأحيان على التحويلات المركزية أن تضع استراتيجية تنموية واضحة؟ وكيف لأطرٍ محلية لم تتلقّ تكوينًا مستدامًا في أساليب التدبير الحديث أن تتحول إلى شريك حقيقي في بناء رؤية مستقبلية للمنطقة؟

ولا يقتصر هذا الواقع على اختلال الموارد فقط؛ بل ضعف الكفاءات المحلية والنخب المنتخبة يزيد الطين بلة. كثير من المنتخبين المحليين لا يملكون لا الكفاءة التقنية ولا الرؤية السياسية اللازمة لقيادة تحول مجالي، بل يقعون في فخ الزبونية والمحسوبية ويُفرغون الجهوية من جوهرها التشاركي. وأمام هذا الضعف، تبقى الدولة المركزية مسؤولة عما يجري لأنها مازالت مترددة في تفويض حقيقي للسلطة والقرار للفاعلين على المستوى الترابي. إذ لا تزال العديد من الصلاحيات مجرد حبر على ورق في النص القانوني دون أن تجد طريقها إلى التطبيق الفعلي، سواء بسبب تردد سياسي أو لعدم وجود آليات مرافقة تُمكّن الجهات والجماعات من تجاوز الإشكالات البيروقراطية.

ما نحتاج إليه اليوم ليس مجرد تسريع تنزيل ورش الجهوية المتقدمة، بل إعادة التفكير فيها كمشروع سياسي واجتماعي يُعيد الاعتبار للمجال ويضمن للمواطن الحق في التنمية دون الحاجة إلى الهجرة نحو المركز. ولعل ذلك يتطلب أولا تأهيل النخب الترابية عبر برامج تكوين مستمر تربط المسؤولية المحليّة بالمحاسبة الصارمة. وثانيًا عبر إصلاح النظام المالي الترابي بشكل جذري، لكي يتيح للجماعات موارد مالية كافية وقارة لتمويل مشاريعها التنموية الكبرى، بدل الاكتفاء بالتحويلات والإعانات العابرة. وثالثًا تحرير الإدارة المحلية من القالب البيروقراطي المقيّد، عبر إدماجها حقيقةً في منطق التدبير الحديث القائم على مبادئ الشفافية والنجاعة والمردودية.

إن مدنًا مثل تاهلة لا تحتاج فقط إلى ميزانيات أكبر، بل إلى رؤية تنموية حقيقية تضعها في قلب السياسات العمومية وتمنحها أدواتها لتتحول من هامش منسي إلى مساهمٍ ومنتج.

فالدولة العادلة مجاليًا ليست مجرد شعار سياسي؛ بل هي الشرط الأساس لبناء وطن متماسك ومتوازن، حيث لا يمكن لقطار التنمية أن يعبُر بسرعة نحو وِجهَته، دون أن يُعبئ محركاته نحو جميع جهات وأقاليم المملكة.