من التالي بعد لبنان؟
أتمنى أن يكون نهر الدماء الذي سال طيلة عام مضى في الطرفين الشمالي والجنوبي من فلسطين التاريخية، كافيا لإقناع البعض بيننا بوجود شيء اسمه خيار المقاومة مع الاستعداد لدفع الأثمان عن سبق إصرار وترصّد.
هل يدرك هؤلاء اليوم أن خيار الخروج يوم سابع أكتوبر 2023، ليس بالضرورة خطأ في التقدير، وتعبري عن التهوّر والتغرير الإيراني… فإذا افترضنا تجاوزا أن القيادة العسكرية لحماس قد ارتكبت كل هذه الخطايا وجنت على شعب غزة كما يزعم البعض، هل يستقيم أن حزب الله اللبناني الشيعي الذي كان له كامل الوقت ل”تدارك” الموقف وتجنّب الوقوع في الخطأ نفسه، لم يُدرك ما نبّ إليه بعض محللي المقاهي عندنا؟
المحور الشيعي ومن ورائه العراب الإيراني هم سادة المنطقة من حيث المناورة والاستباق وتقليل الخسائر. وحزب الله لم يبذل طيلة السنة الماضية في التكتيك الحربي والسياسي مثل ما بذله من جهد في تجنيب اللبنانيين خطر التعرض للافتراس الإسرائيلي، ولو كانت مسألة صمت وانكماش وحياد تجاه ما يحصل في غزة، لتجنّب العدوان، لما تردد الحزب في سلك هذا المسار.
ما يجري هذه الأيام في لبنان دليل على أن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت عازمة أصلا على الخروج إلى معاقل المقاومة المتبقية من حولها، سواء في غزة أو في الجنوب اللبناني، والفتك بها وإبادة حواضنها الاجتماعية وتهجير من تبقى منها.
التحرّك الذي قامت به المقاومة الفلسطينية في غزة، ثم المقاومة اللبنانية، كان استباقيا وبأفق استراتيجي يرمي إلى منع تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصفقات الدولية والإقليمية التي كانت ماضية في طريقها. ولو لم يحصل هذا التوافق لكانت شروط الإجهاز بكل سهولة ودون كلفة على جيوب المقاومة قد اكتملت.
الحرب الحالية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني ترتبط بشكل وثيق بعملية “طوفان الأقصى” .وإسرائيل كانت تستعد لمواجهة متعددة الجبهات مع قوى المقاومة المختلفة بغرض إفنائها. وكل من حماس وحزب الله نجحا في استباق المخططات التي كانت تهدف إلى تقويضهما، خاصة في ظل تقدم مسار تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل.
فمسار التطبيع المندرج ضمن ما يعرف باتفاقات ابرهام، كان يمثّل تهديدًا استراتيجيًا لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية؛ لأنه يعزلها دولياً ويضعف شبكات الدعم الإقليمي التقليدية التي كانت تعتمد عليها.
كانت حركة حماس تواجه ضغوطاً متزايدة من الأطراف العربية التي بدأت تميل نحو تعزيز علاقاتها مع إسرائيل. وقد أظهرت عملية “طوفان الأقصى” أن الحركة قررت المضي قدماً في عملياتها العسكرية كضربة استباقية ترمي إلى خلط الأوراق، وإفساد خطط التحالفات الجديدة التي قد تُضعف موقف المقاومة الفلسطينية وتقلص فرصها على المدى البعيد، وإظهار أن المقاومة لا تزال قوة يجب أخذها في الحسبان، وأن الاستقرار الذي يسعى إليه مسار التطبيع لا يمكن أن يتحقق دون تسوية جدية للقضية الفلسطينية ومعالجة ملف الصراع اللبناني الإسرائيلي.
وعلى الجبهة اللبنانية، كان حزب الله واعياً بأن تحالفات إسرائيل الإقليمية المتزايدة يمكن أن تؤدي إلى تقويض نفوذه الإقليمي، لذا كان من الضروري بالنسبة له التحرك للردع العسكري والتأكيد على أنه قادر على إيقاف أو على الأقل عرقلة أي خطط إسرائيلية أو دولية تهدف إلى تقويضه.
ورغم الخسائر التي تكبدتها حماس في غزة وحزب الله في لبنان، إلا أن الحركتين حققتا مكاسب على عدة أصعدة. من بين تلك المكاسب إحراج المسار التطبيعي، وكبح بعض الدول العربية التي كانت تخطط لتوسيع علاقاتها مع إسرائيل، إذ ظهرت المقاومة الفلسطينية كعامل لا يمكن تجاهله في المعادلة الإقليمية.
وأظهرت أحداث السنة الماضية أن القضية الفلسطينية لا تزال مركزية بالنسبة للرأي العام العربي. وقد استغلت حماس هذا الزخم لإبراز المقاومة كرمز للصمود في مواجهة الاحتلال، مما أدى إلى تزايد الغضب الشعبي ضد التطبيع في الشارع العربي.
كما عادت القضية الفلسطينية إلى الصدارة عبر استرجاع الزخم الدولي للقضية الفلسطينية، وجعل مسار التطبيع يبدو في تناقض مع الوضع على الأرض. كما تحقق تعزيز قدرة حزب الله على الردع، من خلال إثبات قدرته على الرد في حال تهديد مواقعه أو مصالحه في لبنان، وهو ما قد يعزز موقفه على الساحة الداخلية اللبنانية، خاصة بعدما أعطى الدليل القاطع على حرصه على حقن دماء اللبنانيين وتجنيبهم العدوان.
علر الرغم من كل ذلك، ينبغي الاعتراف بأن المقاومة في غزة ولبنان واجهت خسائر كبيرة بسبب الرد الإسرائيلي القاسي. كما أن قدرة حماس وحزب الله على الاستمرار في هذا النوع من المواجهات العسكرية المباشرة مع إسرائيل تظل محدودة بسبب الفجوة الكبيرة في الإمكانيات العسكرية، ما يجعل من الصعب الحفاظ على أي انتصارات ميدانية لفترة طويلة.
ولفهم الموقف الشعبي المتفهّم لاختيارات القيادة، سواء في حماس أو في حزب الله، لابد من استحضار اليقين الذي تؤكده تحركات إسرائيل هذه الأيام وإصرارها على إشعال حرب شاملة، بكون دولة الاحتلال كانت تحضر لعملية واسعة لتصفية المقاومة، لكن الهجوم المفاجئ أجبرها على إعادة ترتيب أولوياتها العسكرية.
في المحصلة، نعم، حماس وحزب الله نجحا في استباق المخططات الإسرائيلية التي كانت تهدف إلى تقويض نفوذهما، خاصة في ضوء مسار التطبيع الإقليمي. إلا أن هذا النجاح يحمل في طياته تحديات ضخمة، خاصةً في ظل التغيرات الجيوسياسية والإقليمية.. وهذا الشلل الذي أبان عنه النظام الإقليمي العربي، وعجزه عن وقف المسار الذي لا يوجد أي مبرر منطقي ولا واقعي، لجعله يقف عند لبنان، بل لابد من التساؤل ومن الآن: من التالي؟