story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

من أجل صف موحَّد لمناهضة التطبيع واتفاقيات أبراهام

ص ص

قدَّمَ الشعب الفلسطيني في غزَّة تضحيات جسام من دمه ولحمه دفاعًا عن أرضه، مواصلًا بعث رسالته إلى العالم في خضمّ الفصل الجديد الذي نعيشه منذ مطلع أكتوبر 2023، وهو امتداد وتحوّل للتراجيديا الفلسطينية القائمة بدون انقطاع منذ نكبة 1948. وقد تابعنا جميعًا جريمة اغتيال الصحفيين بقناة الجزيرة أنس الشريف ومحمّد قريقع وطاقمها المكوّن من إبراهيم ظاهر ومحمّد نوفل في العاشر من هذا الشهر. وهي حلقة جديدة في سلسلة جرائم دولة الاحتلال الصهيونية التي تهدفُ إلى القضاء على شعبٍ بكامله. ولإكمال هدفها هذا، سعت إلى تصفية الصحفيين الذين نقلوا وقائع الإبادة الجماعية في غزّة إلى العالم بأسره، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.

تزامن ذلك مع إعلان حملة قوية لمحو مدينة غزة وقتل ساكنتها أو ترحيلهم قسريًا، وفق برنامج عمليات أعدّ سابقًا يتلخصّ فيما سُميَّ “النصر الكامل” على المقاومة.

مرَّت حرب الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال بمراحل متعدّدة، استخدمت فيها مختلف الوسائل العسكريّة والتكنولوجية الغير مسبوقة في تاريخ الحروب المعاصرة التي تلت الحرب العالمية الثانية. فلم تهدف هذه الحرب إلى إبادة الشعب الفلسطيني فحسب، بل تعمّدت القضاء التام على كل مكونات الحياة الإنسانية في غزّة، آنيًا ومستقبلًا. فتمَّ تجريف الأراضي الفلاحية بقصد تعطيل إنتاج الغذاء، مع تلويث وإيقاف جريان الماء الشروب، وتدمير شبكة الصرف الصحّي وتخريب كل محطات توليد وتوزيع الكهرباء.

أضف إلى ذلك تهديم المساكن والطرق والجسور التي تربط الأحياء ببعضها البعض. وقد حطّمَ القصف الوحشي المؤسسات التعليمية والجامعية والمكتبات والمساجد والكنائس، إلى جانب المستشفيات. ولم يعد هناك حديث عن التجارة أو الاقتصاد، فالقتل اليومي المكثّف هو السائد على مدار الأيّام والشهور، بدون انقطاع.

شُنَّت عمليات التقتيل الجماعي عن بُعد، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وأحدث صيحات التكنولوجيا الرقمية المُستندة على أقسام مختلفة من العلوم. فجيش الاحتلال يتجنّب التماس مع الشعب الفلسطيني الصامد على أرضه. وقد تُوّج هذا كلّه بحرب التجويع المُبرمج بعد نزع وسائل المساعدات الإنسانية من أيدي المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وفروعها المختصة، كما برامج الإغاثة التي تُشرف عليها الجمعيات غير الحكومية العديدة. وقد أصبحت عمليات الإغاثة محتكرة في أيدي الدولة الصهيونية المحتلة، وحليفتها الولايات المتحدة في إطار ما سميَّ بـ “مؤسسة غزّة الإنسانية”.

استخدمت هذه “المساعدات” كسلاح لا يقلُّ فتكًا عن الأسلحة الأخرى. فكانت الطوابير التي تقصد أماكن توزيع ما سمي بـ “المساعدات” تتعرّض للقصف وإطلاق النار من طرف الجيش الإسرائيلي تحت مبرّر حماية هذه “المساعدات” من السرقة، بالاشتراك مع موظفي شركات أمنية أمريكية متعاقدة مع إسرائيل لأجل حراسة عملية التوزيع.

أصبح القطاع في هذا الوضع محاصرًا تمام الحصار بفعل تَحَكُّم جيش الاحتلال في كل المعابر الحدودية، وعرقلته التامّة لدخول المساعدات بالقدر الكافي. وقد هندس الجيش الإسرائيلي الفوضى وسرقة المساعدات التي أدخلت من طرف منظمات عالمية. واتهم نتنياهو ووزرائه زورًا حماس والمقاومة بنهب تلك الإعانات.

والحال أنّ التجويع المنظّم من طرف إسرائيل هو نفسه يرغم طالبي المساعدات من كلا الجنسين ومن مختلف الأجيال على التسابق نحو الشاحنات ونقاط التوزيع المحتكرة من قِبل “المؤسسة الإنسانية”. وهذا مقصود لتبرير إطلاق النار على طالبي المساعدات.

ويحدثُ هذا مع تشبّث نتنياهو بكذبته القائلة بأنَّ “لا مجاعة في غزَّة”، ويتبعه في ذلك حماة دولته الأمريكيون الذين ينفون هم أيضًا وجود هذه المجاعة. والأدهى أنَّ هناك حديثًا راهنًا بزيادة “نقط المساعدة”. والظاهر أنَّ هذا مخطط يرمي إلى تشتيت الجموع الفلسطينية التي تبحث عن لقمة العيش بالزيادة الفعلية لنقط القتل. ومن خلال تكثيف تلك النقط في جنوب غزّة، فالراجح هو محاولة خفية لدفع الناس إلى النزوح جنوبًا نحو “المدينة الإنسانية” المزعم إقامتها على أنقاض مدينة رفح. إنّها لعبة قدرة ظاهرة المعالم لكونها تهيئ لتقتيل الفلسطينيين وترحيل من بقي منهم خارج القطاع.

ومن الواضح أنَّ الاحتلال يرغب في القضاء على الوجود الفلسطيني. وهذا يتجلّى في تدميره وتخريبه للمستشفيات، ممّا يُسبّب الموت في تلك المرافق نفسها ويعرقل علاج الأعطاب المتنوعة. ولهذا كله خلفيات مُتمثّلة في انتشار تلك الأعطاب والأمراض على الأمد الطويل، تمامًا كالعواقب الوخيمة والطويلة الأمد التي خلفتها القنبلتين الذرتين في هيروشيما وناغاساكي.

فلا يزال قسمٌ من سكان المدينتين يعاني من أثر القنبلتين اللتين أُسقطتا في سنة 1945. فكل ما تفعله إسرائيل حاليًا له أثر على المدى المتوسط والطويل. ولا أدل على ذلك أكثر من استهداف الأطفال والرضّع والنساء بهدف التخفيض أو القضاء على الإنجاب. يظهر أنّ هذا له علاقة بهوس إسرائيل بما يسمّى “القنبلة الديمغرافية”، ويقصدُ بها تفوق عدد الفلسطينيين على عدد الإسرائيليين. وإذ هم اليوم أعداد متكافئة، فإنَّ مختلف الحكومات الإسرائيلية قد خططت لإبطاء وثيرة النمو الديموغرافي الفلسطيني عن طريق تهجير الفلسطينيين قسرًا والامتناع عن الاعتراف بحقهم في العودة.

وسأتناول فيما يأتي، بإيجاز، النقاط الحيوية التي تتجلّى في الظواهر الجديدة لحرب الإبادة الجماعية الدائرة رحاها في غزة:

أولًا: إنَّ كارثة إبادة الشعب اليهودي في ألمانيا النازية كانت معلنة جهرًا وبوضوح تام. ورغم وجود هذا الإعلان فإنَّ المحارق كانت تُنظّمُ في سريّة، خلافًا للوضع الحالي في غزة. فهنا نجد الدولة الصهيونية تقوم بإبادة الشعب الفلسطيني علانية وعلى المباشر، وهو أمر جديد وغير مسبوق.

ثانيًا: إنَّ حروب الإبادة التي شهدها العالم في أفريقيا وغيرها قامت بين فصائل إثنية من سُكّان البلاد، بخلاف حرب الإبادة الجارية في غزة. فهذه الأخيرة تُشنّ من قِبل جماعات أوروبية- صهيونية استولت على قسم واسع من تراب فلسطين بالقوّة والإرهاب. ولا علاقة لهذه الجماعات تاريخيًا باليهود الذين تعايشوا مع المسلمين في فلسطين لقرون قبل ظهور الفلسفة والدعاية الصهيونية في أوروبا خلال أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، وهو قرن كولونيالي بامتياز. وقد تشبّع اليهود الأوروبيون بهذا الإرث الاستعماري، خصوصًا الجماعات الناشطة بأوروبا الشرقية التي عانت من العنف الجماعي المنظم ضدّها من طرف المجموعات الإثنية المسيطرة ومؤسساتها الدينية.

ثالثًا: إنَّ الدولة الصهيونية قد استخلصت الدروس من سابقة الهولوكوست في ألمانيا، حيث تمت محاكمة القادة المجرمين والمتورّطين في إبادة اليهود. ولهذا تحاول إسرائيل اليوم خلط الأوراق لتفادي محاكمة قادتها بعد نهاية الحرب بتهمة “نية الإبادة” في حق الفلسطينيين. لكنَّ الأعمال المتكرّرة والمتواترة المرتبطة بالقتل العشوائي وتدمير المستشفيات والتجويع وإخلاء المدن والنزوح القسري وغير ذلك من الجرائم تقدّم للمحققين والمحققات أدلة كافية على نية إسرائيل في التطهير العرقي والإبادة.

وقد نشر مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة المعروف اختصارًا بـ “بتسيلم” تقريرًا عن وقائع حرب الإبادة في غزّة. وقد لخصه واضعو التقرير في مقال رأي نُشر في صحيفة النيويورك تايمز بعنوان: “موت غزة بالحركة البطيئة”1. وقد سمّت فرانشيسكا ألبانيزي هذه الظاهرة بـ “الموت الطبّي”، وهو مفهوم جديد يُنظّر لهذا الواقع الغير مسبوق.

وقبل هذا النص صدر مقال الرأي الذي نشره أستاذ كبير وباحث مرموق في موضوع الهولوكوست ودراسات الإبادة بعنوان: “أنا باحث في الإبادة. أعرفها كلّما رأيتها”2. وهو عومير بارتوف، الأستاذ بجامعة براون العريقة. ويستشهدُ المقال المطول بالوقائع وكتّاب آخرين، ومن خلاصاته أنَّ “قوة ذاكرة الهولوكوست لا بدّ لها أن تعترف بحقيقة غزّة”. بمعنى أنّ ما يجري في غزة هو حرب إبادة.

رابعًا: إنَّ تعامل الولايات المتحدة والدول الأوروبية مع القضية الأوكرانية يُبيّن بوضوح الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير، لا سيما عند مقارنتها بالقضية الفلسطينية. فتعبئة أوروبا بأسرها، وخاصة الحكومة الألمانية، لدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، ثمّ انعقاد القمة المرتقبة بين القطبين الروسي والأمريكي، يقابلها تجاهل شبه تام لحرب الإبادة الجماعية المتواصلة في فلسطين. وهذا يُعدّ دليلًا قاطعًا على ازدواجية المعايير، وهو أحد الأسباب الرئيسية لانهيار القانون الدولي وما يسمّى بـ “الشرعية الدولية”.

خامسًا: صرّح نتنياهو يوم 13 غشت الجاري برؤيته المساندة لفكرة إقامة “إسرائيل الكبرى” التي تضمّ أراضي فلسطين التاريخية، مع توسيع حدود ذلك الكيان المتخيّل ليشمل أراضٍ من لبنان وسورية والعراق والأردن بأكمله، ثمّ ما سميَّ بالصحراء الجنوبية، وهي أراضي شاسعة في شمال المملكة العربية السعودية إلى جانب صحراء سيناء وأراضي مصرية أخرى.

تلك هي الخريطة الجديدة التي تمثل بعث “إسرائيل الجديدة” وإعادة تنظيم المجال الترابي فيما أطلق عليه نتنياهو “الشرق الأوسط”. ومصطلح “الشرق الأوسط” هو أمريكي الصنع بالأساس، بينما لا نجد هذا المفهوم في القاموس العربي الذي يصف المنطقة بمفردتي المشارق والمغارب. واستعمال مصطلح “الشرق الأوسط” من طرف نتنياهو يدلّ أنه صمّم العزم على انتماء إسرائيل إلى الحضارة الأورو-أمريكية، ولا يتخيّل انتماءها إلى المحيط التي فرضت نفسها عليه بالحديد والنار منذ ما يقارب القرن.

إثر هذه التصريحات المستفزة، بادرت بعض حكومات المنطقة إلى إدانة كلام نتنياهو، من بينها الأردن والسعودية وقطر وإندونيسيا التي عبّرت عن التضامن الإسلامي. وقد ندّدت مصر بتلك التصريحات، دون أن تذكر اسم نتنياهو. والتحقت الإمارات يوم الخميس بدول التنديد. في المقابل، ساد الصمت في بلدان المغرب الكبير.

وبخصوص المغرب، فلا نجد حتى الآن أيّ تفاعل من طرف النظام الحاكم مع تصريحات رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية المتطرفة.

ولهذا ارتأيت أن أغيّر الموقف الذي اعتمدته سابقًا، وهو تجميد العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل وتجميد الانخراط في اتفاقيات أبراهام. واليوم أدعو إلى التخلّي عن كارثة التطبيع الذي وُقّع بالقصر الملكي من طرف رئيس الحكومة المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية، وبحضور ممثلين عن الطرف الإسرائيلي والأمريكي تحت إشراف الملك الذي أمسك عن الكلام. وقد تابعنا جميعًا شريط تلك المراسم على شاشة التلفزيون المغربي الرسمي.

وإني، والحال هذه، قد غيّرتُ موقفي السابق من الدعوة إلى تجميد العلاقات، إلى الدعوة إلى التخلّي التام عن التطبيع وإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط وتمثيلية المغرب في تل أبيب. ويبدو لي أنّ المناسب في هذه الظرفية يقتضي الوقوف صفًا موحدًا ضدّ هذا الواقع الجديد بالتظاهر السلمي المستمر لإنقاذ بلادي ومستقبلها من كارثة التطبيع التي تقحمها في العلاقة مع نظام فاشي خرق كل القوانين الدولية والأعراف الأخلاقية التي كانت البشرية قاطبة قد أجمعت عليها، وحاولت الدفاع عنها في إطار منظمة الأمم المتحدة وفروعها المعروفة. وإذا استمرت إسرائيل، ومعها حليفتها أمريكا على هذا النهج، فقد يقود ذلك إلى انهيارٍ تامٍ للمجتمع الدولي، ما يفتح الأبواب أمام حروب تهدّد مستقبل البشرية.

أشكر الباحث عبد اللطيف الحماموشي على مساعدته القيّمة في إعداد هذا المقال.