“مقبولين”.. ذاكرة التعايش في دير تومليلين

شهدت قاعة سينما النهضة بالعاصمة الرباط، مساء الخميس 10 أبريل 2025، عرض الفيلم الوثائقي الجديد “مقبولين، ضيوف تومليلين”، للمخرجة المغربية يزة إيديري جينيني، بحضور شخصيات مرموقة من عالم الثقافة والفن والإعلام، في لحظة فنية مفعمة بالحنين إلى زمن مغربي منسي عاش فيه المسلمون واليهود والمسيحيون في وئام فريد.
يستعيد الفيلم، الذي أنتجته مؤسسة “ذاكرات من أجل المستقبل”، في 43 دقيقة من التوثيق البصري الرفيع، حقبة تاريخية بين سنتي 1952 و1968، حين أسس عشرون راهبًا بندكتينيًا ديرًا في منطقة أزرو بالأطلس المتوسط، وحوّلوه إلى منارة للحوار الديني والتبادل الثقافي واللقاء الفكري، بدعم من الملك الراحل محمد الخامس.
ويتناول الفيلم عبر شهادات مؤثرة وصور أرشيفية نادرة، تفاصيل تجربة إنسانية استثنائية جمعت بين رهبان من منطقة تولوز الفرنسية وسكان المنطقة المغاربة، حيث أسسوا مستوصفًا ومدرسة، وأطلقوا “ملتقى تومليلين الدولي” الذي استقطب مفكرين وفلاسفة من مختلف بقاع العالم، ليصبح رمزًا لمغرب الانفتاح والكرم والتسامح.
وفي هذا الصدد، شددت لمياء الراضي، رئيسة مؤسسة “ذكريات من أجل المستقبل”، على البعد الإنساني والثقافي العميق الذي يحمله الفيلم الوثائقي، معتبرة أن هذا العمل “يشكّل محاولة حقيقية لصون ذاكرة مغربية فريدة من نوعها، طبعتها روح التعايش والضيافة والانفتاح”.
وأوضحت الراضي، في تصريح لصحيفة صوت المغرب، أن الفيلم يهدف إلى الحفاظ على أثر هذه التجربة غير المألوفة، مبرزة أن الكرم المغربي وتقبل الآخر ليسا مجرد سلوك ظرفي، بل جزء أصيل من الهوية الوطنية.
وأضافت: “نأمل أن يُسهم هذا العمل في نقل ذاكرة اللقاءات الدولية التي احتضنها دير تومليلين، حيث اجتمع المسلمون واليهود والمسيحيون حول قيم إنسانية نبيلة، إلى الأجيال الجديدة”، مشيدة في السياق ذاته بالرؤية الفنية العميقة للمخرجة يزة إيديري جينيني، التي “استطاعت بعدسة دقيقة أن تتجاوز البعد التوثيقي البحت، لتقدّم عملاً يحمل رسائل قوية عن العيش المشترك والانفتاح الثقافي”.
ومن جانبها، قالت المخرجة المغربية يزة إيديري جينيني، إن فكرة إنجاز فيلم وثائقي حول قصة الرهبان الذين عاشوا في المغرب ما بين سنتي 1952 و1958 جاءت بناءً على اقتراح رئيسة الجمعية، التي كانت من المعجبات بأفلامها الوثائقية، وقالت لها: “يجب أن تصنعي فيلمًا عن هؤلاء الرهبان الذين أنجزوا عملًا رائعًا في المغرب، وكانوا مقبولين من طرف المغاربة”.
وأوضحت جينيني، في تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، أن المشروع يُجسد روح التعايش والانفتاح التي طبعت المغرب في تلك الفترة، مضيفة: “نعم، هؤلاء المسيحيون أنجزوا عملًا جميلاً، وكانوا يعيشون بين الناس في جو من التقدير والاحترام، المغاربة احتفوا بهم، وقبلوا حضورهم بصدر رحب”.
وأكدت أن هذا الفيلم الجديد يهدف إلى تعليم الأجيال الصاعدة قيم التعايش والانفتاح التي كانت حاضرة بقوة في مغرب الخمسينيات، قائلة: “هذا هو مغربنا الحقيقي، مغرب يقبل الجميع ويحتفي بالاختلاف، حيث يُستقبل كل من جاء إليه بصدق ومحبة”.
من جانبه، قال أحمد بدري أحد المشاركين في الشريط الوثائقي، إن مساهمته في هذا العمل كانت بصفته شاهدًا عاش تلك الفترة كتلميذ وطالب، بين سنتي 1962 و1968، حين كان يتابع دراسته في “ثانوية طارق بن زياد” بمدينة أزرو، وكان يقيم في داخلية المؤسسة نفسها.
وأوضح المتحدث، أن تلك المنطقة كانت بالنسبة لهم في تلك المرحلة بمثابة مركز ثقافي حيوي، يحتضن لقاءات وندوات مهمة، تستضيف شخصيات وطنية وعلمية وفكرية من الطراز الرفيع.
وقال بدري: “كنا تلاميذ لا ندرك آنذاك القيمة الحقيقية لتلك الشخصيات، لكننا كنا نعيش لحظات استثنائية، تُفتح فيها أمامنا نوافذ على العالم، على حوار الثقافات وتبادل الأفكار والأديان”.
وأضاف أن علاقته بالرهبان الذين كانوا يقطنون بتَملِّيلين استمرت حتى بعد مغادرتهم، حيث التقى ببعضهم لاحقًا في فرنسا، خلال فترة تحضيره للدكتوراه، وكانت له اتصالات خاصة مع شخصيات مثل لوبير دوني وجيل بيرنار.
كما أبرز بدري أن مكتبة تَملِّيلين كانت من أغنى وأهم المكتبات التي عرفها المغرب آنذاك، مشيرًا إلى أن الطلبة المغاربة، بمن فيهم هو نفسه حين انتقل إلى الرباط، كانوا يقصدون هذه المكتبة للإعداد للامتحانات، نظرًا لما كانت تحتويه من مراجع نادرة وقيمة.
وختم المتحدث كلامه بالقول: “هذه المساهمة في الشريط هي بمثابة إحياء لذاكرة مغرب منفتح، مغرب اللقاء والتنوع، حيث تعايشت وتفاعلت مختلف الثقافات والديانات في انسجام فريد”.
ويعد هذا الفيلم ثمرة بحث وتوثيق دقيق، وهو الأحدث في سلسلة طويلة من الأفلام الوثائقية التي أنتجتها يزة جينيني التي كرست إبداعاتها لتسليط الضوء على الجوانب الثقافية والروحية المتعددة للمغرب.
وأنتج فيلم “مقبولين، ضيوف تومليلين” في إطار مشروع المؤسسة “إعادة إحياء تومليلين” بدعم من برنامج “ذاكرة” التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وسيتم عرض الفيلم في عدد من القاعات السينمائية الوطنية، كما سيشارك في عدد من التظاهرات والمهرجانات الدولية.