story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

مفاتيح “عهد جديد”

ص ص

برزت في الآونة الأخيرة “موضة” استشراف ما سيكون عليه المغرب في أفق انتقاله إلى عهد جديد في المستقبل. ويكاد هذا النقاش، سواء في الكواليس أو في العلن، ينحصر في حسابات المواقع والتحالفات، ومن سينجح في ضمان التمديد لخدماته ليربط بين العهدين الحالي والمستقبلي، ومن هم أكباش الفداء الذين ينبغي تقديمهم في محراب السلطة…

ويكاد في المقابل يغيب أي نقاش حول مضمون هذا المشروع الذي سيُبنى عليه أي أفق جديد للمغرب.

لقد عشنا في منتصف السبعينيات بناء مشروع “مسلسل ديمقراطي” انطلاقا من عملية تحرير الصحراء، ونتذكّر جميعا مشروع “الانفتاح” و”التناوب” الذي حقق التعبئة والإجماع خلال عقد التسعينيات وساهم في تأمين انتقال العرش؛ ثم عشنا على إيقاع المشروع الحداثي الديمقراطي، وفي جوهره فكرة الإنصاف والمصالحة في بدايات الألفية الحالية، ثم جاءت موجة “أين الثروة” والنموذج التنموي الجديد لتعبّر عن محاولة بناء فكرة وطنية معبئة جديدة… وبصرف النظر عن درجة نجاح أو فشل كل المبادرات السابقة، فإن الأهم يبقى هو قدرتنا على بناء هذا الحلم الجماعي الجديد.

لكن، ونظرا لما عشناه في السنوات الأربع الماضية من دينامية استثنائية مسّت علاقاتنا الخارجية، فإن ملف الصحراء الذي كان دائم الحضور والتأثير في جلّ ما تقدم عليه الدولة من اختيارات، وإن لم يكن هذا الارتباط مباشرا ولا معلنا، سيكون مركز الثقل الأساسي في كل عملية انتقال نحو وضع جديد، كيفما كانت حيثيات وأسباب هذا الانتقال.

لننتبه أولا إلى أن بناء حلم وطني جديد، بات حتمية لا مناص منها، وضرورة نابعة من الديناميات السفلى، أي تلك النابعة من المجتمع، كيفما كان الوضع العلوي، أي على مستوى الدولة.

هذا القلق الوجودي، وتلك الانتظارية الجاثمة فوق النفوس، والخوف من الاضمحلال الجماعي، الذي تعبّر عنه أرقام الخصوبة والبطالة واللجوء المتزايد إلى تكتيكات الخلاص الفردي، سواء بتخزين الأموال ومجوهرات في “المخدات” و”تحت الزليجة”، أو بالبحث المتزايد عن منفذ للرحيل، برا وبحرا وجوا؛ كل هذا يجعلنا أمام هذه الحتمية حفاظا على مقومات الاستقرار.

هنا تبرز الصحراء كمعطى مهيكل بدليل دورها الحاسم في تموقعنا إقليميا ودوليا، وضرورة تقديم الدولة لمشروع متكامل ومقنع بإمكانية إعادة الثقة إلى المؤسسات. التقرير الأخير ل”وسيط المملكة”، يبيّن لنا بالمؤشرات الإحصائية والمرقّمة، هول الخصاص القائم في تحقيق العدالة وفعلية القوانين وضمان المساواة أمامها.

عنصران، أي الصحراء والديمقراطية التي تعتبر البوابة البديهية نحو أية طفرة مؤسساتية، لا يلتقيان في هذه المرحلة من باب الصدفة، بل قد تكون بينهما علاقة سببية، في شكل طريق سيّار. أي أن أحدهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، في علاقة جدلية يجدر بالمفكرين والأكاديميين والعقلاء، أن يجلسوا من الآن إلى طاولة نقاش وطني صريح لرسم مسارها.

الحكم الذاتي في الصحراء لا يمكن أن يكون مجرّد تنزيل لاتفاقات وتوافقات خارجية، بل لابدّ له من أرضية داخلية صلبة، عنوانها فعلية الدستور والقوانين، وقدرة المؤسسات على ممارسة سلطاتها بشكل متوازن وفعّال.

لا يمكن الحديث عن أي تنزيل لهذا الحل على الصعيد الداخلي، بدون إنضاج فكرة الجهوية، ومنحها مضمونا يكتسي بعض الجدّية والقبول بإعادة بناء الدولة بشكل يستحضر البعد الترابي والمجالي، ولا يمنح صلاحيات بيد القوانين التنظيمية، ثم يسحبها بتكتيكات تجعل الولاة الممثلين لجهاز الدولة المركزي، أوصياء ومسيطرين على كل البنيات التمثيلية والمنتخبة على الصعيدين الجهوي والمحلي.

لابد لنا اليوم من نقاش وطني صريح ومفتوح حول جدّية ما نعلنه من نوايا وإصلاحات، واستلهام ما يكفي من دروس من التجربة الخاصة بتنزيل دستور 2011، وما إذا كنا قد نجحنا أو فشلنا في تنزيله وتأويله بشكل ديمقراطي حقا.

علينا أن نقرأ تجربتنا في تنزيل الخيار الديمقراطي الذي كان وراء إحداث مؤسسة رئاسة الحكومة ووراء جعلها نابعة بشكل مباشر من صناديق الاقتراع.

لا أريد إصدار أي حكم، لكننا وقبل أن نزعم القدرة على التعامل مع حكومة وبرلمان جهويين في إقليم الصحراء (أي إقليم أولا؟ هل هو المجال الترابي المتنازع عليه أم هناك رؤية أخرى ممكنة؟)، لابد أن نتساءل كيف تعاطينا مع إرادة الناخبين المعبّر عنها منذ 2011؟ وهل تجربتنا مع حكومة محاطة بكل المتاريس الاحترازية الممكنة، والقابع رئيسها داخل أسوار المشور السعيد، والتي لا تتخذ قراراتها الاستراتيجية إلا في مجلس وزاري يرأسه الملك، تمنحنا أهلية التطلّع إلى حكومات محلية؟

هذا عن العلاقة السببية التي تنطلق من الديمقراطية وتتجه نحو الحكم الذاتي، أما في الاتجاه المعاكس، فلن أزيد أكثر مما قاله عندنا قبل يومين، الخبير في الملف والحقوقي عبد المجيد بلغزال، من تساؤلات حول وجود ضمانات لنجاح الحكم الذاتي في الصحراء وعدم تحوّله إلى انفصال.

الورقة المرجعية غير المسبوقة التي خصّنا بلغزال بنشرها، تقول إن “الحكم الذاتي” باعتباره نهجا خلاقا للتوفيق بين مبدأ تقرير المصير والحق في سلامة الوحدة الترابية للدول، “يحتاج إلى ضمانات الديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون. ففي غياب هذه المنظومة المتكاملة، فإن الحكم الذاتي كخيار سياسي للحفاظ على الوحدة، يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى انفصال. فالديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون هي الضمانة الأساسية لوحدة الأوطان”.

ودعونا نختم بهذا النموذج العملي والقريب منا، والذي تعيشه إسبانيا:

ألم تتطلّع جهات متمتعة بالحكم الذاتي إلى الانفصال، ونظّمت استفتاءات حديثة انتهت بأغلبية تؤيد هذا الخيار؟ أي أن الحكم الذاتي وإن كان يحلّ الإشكالات القانونية على الصعيد الدولي، فإنه لا يقضي على الانفصال إذا كان موجودا في العقول والقلوب.

ثم لماذا فشلت المحاولات الانفصالية في إسبانيا، سواء في كطالانيا أو في الباسك؟ إنها الضمانات التي يتساءل بشأنها بلغزال. هذا هو التفسير الوحيد، ولا يوجد أي سرّ في المسألة. في إسبانيا هناك دستور وديمقراطية ومؤسسات متينة تستمد قوّتها من فعلية القوانين ومن ضمان التمتّع بالحقوق الجماعية والفردية…

وهنا توجد بذور أي مشروع يؤسس ل”عهد جديد”.