متوشحًا علم فلسطين.. وداع مهيب لسيون أسيدون في جنازة حضرتها المقاومة
تحت شمس خريفية ناعمة، وبين زحام الوجوه المتأثرة، توشحت المقبرة اليهودية بالدار البيضاء بألوان العلم الفلسطيني الذي ظلّ يرافق سيون أسيدون حيًّا، وها هو اليوم يظلّل نعشه في يوم وداعه الأخير.
من كل حدب وصوب، وفد مناضلون وحقوقيون وسياسيون، بينهم رفاقه في السجون خلال سنوات الرصاص، وآخرون عاشوا معه النضال من أجل فلسطين وضد التطبيع. بل حتى المقاومة التي حلم بالانضمام إليها شاركت في تشييعه إلى مثواه الأخير، بحضور أحد مؤسسي كتائب القسام التابعة لحركة حماس.
عند مدخل المقبرة، تعلو هتافات المناضلين في وقفة نظمتها الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، التي كان ينشط بها سيون أسيدون بفعالية خلال سنواته الأخيرة، مع وجوه حزينة تصدح: “أسيدون ارتاح، ارتاح، سنواصل الكفاح”.
روح حيّة
يقول عبد الحميد أمين، رفيق أسيدون في السجن والنضال في الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع: “ودعنا أسيدون جسدًا، لكننا لم نودّعه روحًا ولا قضية. روحه باقية فينا، تسكن ذاكرتنا وضمائرنا، وسنظل نستحضره ما حيينا”.
وتذكر أمين السنوات الطويلة التي قضاها مع الراحل في الاعتقال، وأضاف: “معه أكثر من اثنتي عشرة سنة في السجن، تقاسمنا فيها التجربة بكل مرارتها وجوانبها الإنسانية”، مشيرًا إلى أن السجن، رغم قسوته، “كان مدرسة للصمود، وكان أسيدون نموذجًا في الصلابة والإيمان بعدالة قضيته”.
وقال الناشط اليساري إن أسيدون لم يكن مناضلًا عادياً، بل شخصية شاملة بكل ما للكلمة من معنى: “كان مغربيًا وفلسطينيًا في آن واحد، يعيش القضية الفلسطينية كما لو كانت جزءًا من كيانه”. وأضاف: “لقد أحبّ فلسطين حتى النخاع، وناضل من أجل انعتاق شعبها ومقاومة التطبيع في بلادنا. نودّع اليوم الجسد، لكن الروح والفكر والموقف سيظلان معنا”.
حضور سياسي واسع
تميز تشييع جثمان سيون أسيدون بحضور متنوع من الأحزاب والتنظيمات السياسية المغربية، التي جاءت لتؤكد الوفاء لمسيرة الراحل والتضامن مع القضايا التي ناضل من أجلها. إذ حضر ممثلون عن حزب النهج الديمقراطي، وجماعة العدل والإحسان، وحزب التقدم والاشتراكية.
وقال أبو الشتاء مساعف، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، إن سيون أسيدون كان من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان، كما كانت القضية الفلسطينية تشغله، مشيرًا إلى أنه عمل إلى جانبه أكثر من عشر سنوات.
وأضاف مساعف، معددًا مناقب الرجل، في حديثه مع صحيفة “صوت المغرب”: “دائمًا تجده من الرجال الذين يعبرون عن آرائهم بحرية وجرأة، ويحترم اختلاف الآراء. تسحرك ابتسامته دائمًا، وعندما نعزم على عمل ما تجده من الأوائل الذين يشاركوننا”.
وسجل مساعف عن الراحل حضوره في مختلف المناسبات المناضلة لفلسطين، إضافة إلى كونه من أشد المناهضين للتطبيع، “يرصد ويوثّق ما يجري بدقة، ويحرص على نقل المعلومة الصحيحة للناس”، مستحضرًا نشاطه في مواجهة “سفن الإبادة” أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة.
وقال: “سنواصل مسيرة النضال التي بدأها، دفاعًا عن فلسطين ومناهضة التطبيع، ولن نتوقف حتى تحقيق العدالة والمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني”.
من جانبه، يرى جمال براجع، الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي، أن سيون أسيدون كان رمزًا من رموز النضال الوطني والأممي، إذ ساهم في تأسيس حركة مقاطعة إسرائيل “بي دي إس”، والجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع.
وفي معرض حديثه عن رحيله الأليم، طالب براجع، في حديثه مع صحيفة “صوت المغرب” بفتح تحقيق نزيه يكشف عن ما وصفه بـ”الملابسات الغامضة” في الحادث الذي تعرض له سيون أسيدون.
وقال: “نعده بأننا سنواصل النضال من أجل المبادئ والأهداف التي كرّس حياته من أجلها: الحرية، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة، وكذا من أجل تحرير الشعب الفلسطيني وبناء دولته الوطنية وعاصمتها القدس”.
المقاومة تودع الراحل
بين الوجوه المغربية المناضلة المألوفة، ظهر تيسير سليمان، القيادي الفلسطيني البارز في حركة المقاومة الإسلامية – حماس، متوجهاً نحو مناضلي حركة مقاطعة إسرائيل “بي دي إس” لتقديم العزاء.
وقال سليمان، في حديث مع صحيفة “صوت المغرب”، إن مشاركته “وفاء لروح المناضل الراحل سيون أسيدون، الذي كرس حياته للدفاع عن الحق الفلسطيني، مؤمنًا بأن الحرية والعدالة لا تتجزآن”.
وأشار سليمان، وهو أحد مؤسسي كتائب الشهيد عز الدين القسام، إلى أن رؤية الراحل في مواجهة الاحتلال “لم تكن تقتصر على الميدان العسكري، إذ أنها كانت تشمل المقاطعة الاقتصادية والسياسية والثقافية”.
وأضاف: “لقد كان الراحل من أبرز مؤسسي حركة مقاطعة البضائع والشركات الداعمة للاحتلال، وأحد الأصوات المغربية الحرة التي جعلت من هذه الفكرة مسارًا وطنيًا وإنسانيًا”.
وأكد القيادي في حركة حماس والأسير الفلسطيني المحرر على ضرورة مواصلة طريق أسيدون، وقال: “إن من وقف مع فلسطين يستحق أن نقف معه، وفاءً له ولمبادئه. وسنظلّ على هذا الدرب، ندعم كل عمل بطولي وكل مبادرة إنسانية تقف في وجه الاحتلال والتطبيع”.
وفاء للمغرب وعداء للصهيونية
على كرسيه المتحرك، كان يوسف حجي أبو سارة، أحد رفاق أسيدون، يتقدم جنازة الراحل، بوجه حزين على فراق رفيق السجن والنضال من أجل فلسطين، في تجسيد حي للوفاء.
بينما يتحلق المشيعون حول قبر أسيدون، مثواه الأخير، كان حجي يروي في حديث مع صحيفة “صوت المغرب” أبرز ما يتذكره عن علاقته العميقة بالراحل. تهلّل وجهه وابتسم وهو يستحضر اللحظات الدافئة التي قضوها معًا، إلى جانب الراحل أبرهام السرفاتي.
يقول حجي: “أثناء فترة الاعتقال في القنيطرة، علَّمنا أسيدون درسًا أساسيًا: أن الصهيونية عدُوّ لليهودية. ومنذ ذلك الزمان وأنا أردد هذا الشعار”.
وأضاف: “كنت أستحضر دائمًا هذه المقولة التي بدأتْ في القنيطرة، أثناء وجودي في قطاع غزة”، حيث كان المتحدث ينشط في إطار بعثات إنسانية تهتم بالأطفال في مخيمات اللاجئين بين 1994 و2006. وقال: “كان لي الشرف أن أعمل في ذلك الوقت بخان يونس، وظلّ اتصالي مستمرًا بسيون وأبراهيم”.
واستحضر يوسف اهتمام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالمناضلين المغاربة سيون أسيدون وأبرهام السرفاتي، وإلحاحه المستمر على ضرورة زيارتهما لفلسطين، إذ كانا يرفضان الدخول إليها عبر سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
أما صديقه أنيس بلافريج، فتحدث عن شخصية أسيدون، فقال: “لا يُعرف على حقيقته إلا عندما تقترب منه وتكتشف فخره بانتمائه إلى المغرب، ودفاعه عن وطنه المغرب”. وأضاف: “رفض أن يُقتلع من جذوره ومن وطنه، وكان يقول: بلدي هو المغرب، وهنا أريد أن أخوض نضالي”.
وأشار بلافريج إلى أن دعمه للقضية الفلسطينية “ناجم عن إحساس داخلي عميق، ورفضه لاقتلاع اليهود المغاربة من وطنهم، لأنهم مغاربة أصيلون عاشوا هنا منذ قرون”. وأضاف: “لهذا السبب وقف ضد الصهيونية، ودافع عن فلسطين”.
الوداع الأخير
عندما تم إنزال النعش إلى القبر، بدأ مناضون يلقون السلام الأخير على صديقهم. غُطّي النعش بعلم فلسطين ليرافق سيون أسيدون في مثواه الأخير بعدما حمله على كتفه سنوات طوال من حياته.
وقف الرفاق للحظة قصيرة، بعضهم ينحني على الأرض يودّع الراحل، وآخرون يلقون التحية الأخيرة بهمس، وبدأ الجمع يستعد للرحيل عن صديقهم “المَعطي” وهو الاسم الذي كان يحب مناداته به، ومع المشهد المهيب هذا اليوم بدا أن للاسم دلالته، إذ أعطيَ سيون أصدقاء أوفياء من مختلف المشارب، بينهم الإسلامي واليساري والقومي.
ومع تفرق الحاضرين، كانت كل خطوة مبتعدة وعدًا بالاستمرار على درب سيون أسيدون: الدفاع عن فلسطين، ومناهضة الفساد والصهيونية، ومواصلة النضال حتى تحقيق العدالة والكرامة للشعب الفلسطيني.