مشهد القيادة المنفردة يتلاشى.. هل كانت “قمة تيانجين” نعيا للقرن الأمريكي؟

انعقدت مطلع شتنبر الجاري قمة منظمة شنغهاي للتعاون بمدينة “تيانجين” الصينية، بمشاركة قادة نحو عشرين دولة، في مشهد بدا أشبه بفصل جديد يُكتب في تاريخ العلاقات الدولية. فالقمة لم تكن مجرد اجتماع تقليدي لإلقاء الكلمات وتبادل المجاملات الدبلوماسية، بل بدت مسرحا سياسيا تُرسم فيه ملامح نظام عالمي يتغير أمام أعيننا، منحه غياب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بعدا رمزيا يتجاوز حدود الدبلوماسية إلى ما يشبه إعلان بداية مرحلة جديدة.
وكانت منظمة شنغهاي قد عرفت منذ تأسيسها عام 2001 مسارا متدرجا من إطار إقليمي للتنسيق الأمني إلى منصة شاملة تربط بين ملفات الأمن والاقتصاد والطاقة. غير أن قمة تيانجين تميزت بخصوصية لافتة، إذ جاءت على خلفية تراكم أزمات عالمية متسارعة من الحرب التجارية بين واشنطن وكل من بكين ونيودلهي، إلى الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته، ومن الملف النووي الإيراني والضربات الإسرائيلية والأميركية ضد طهران، إلى حرب غزة وما تثيره من ارتدادات إقليمية ودولية، وصولا إلى التوتر المتصاعد حول قضية تايوان. كل هذه المحطات التقت في تيانجين لتمنح القمة زخما يتجاوز حدود المنظمة، ويجعلها مرآة لتحولات أعمق في بنية النظام الدولي.
ويمثل موقف الهند في قمة تيانجين إشارة استراتيجية بالغة الأهمية، خاصة في ظل محاولات واشنطن التاريخية لاستخدام نيودلهي كرافعة لموازنة النفوذ الصيني. فقد أكد رئيس الوزراء “ناريندرا مودي” بوضوح على أولوية “الاستقلال الاستراتيجي”، مصرحا أن بلاده لن تكون أداة في صراعات القوى الكبرى. هذا التصريح لم يكن مجرد شعار، بل جاء تتويجا لمسار من التوترات المتراكمة مع واشنطن، خاصة بعد الأزمة مع باكستان، وإصرار الهند على مواصلة شراء النفط الروسي رغم الضغوط الغربية، مما دفع إدارة ترامب لرفع الرسوم الجمركية على السلع الهندية إلى 50%، وهي خطوة عبّرت عن نظرة استعلائية تعامل الهند كتابع وليس كشريك متكافئ.
وبالتالي مثلت مشاركة “مودي” في القمة إعلانا صريحا عن انعطافة استراتيجية تتبنى فلسفة جديدة قوامها “توازن المصالح لا توازن الولاءات”. وهذا يطرح سؤالا جوهريا: هل يمثل هذا التحول مجرد مناورة تكتيكية مؤقتة، أم أنه يعكس مسارا عميقا يعيد تموقع الهند كقطب مستقل في المعادلة الجيوسياسية العالمية، بعيدا عن عباءة التحالفات التقليدية؟
وكانت الصين قد قدّمت كمضيفة للقمة، نموذجا دبلوماسيا يجمع بين الهدوء الظاهري والصلابة الاستراتيجية. حيث أكد الرئيس “شي جين بينغ” أن بكين لا تهدف إلى إقامة “عالم ضد أحد”، بل تسعى لنظام دولي متعدد الأقطاب يضمن مشاركة عادلة للجميع، معتبرا الصين “قوة مستقرة” تدعم العالم النامي.
تكمن وراء هذه اللغة الدبلوماسية إرادة استراتيجية واضحة، فمنذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق (2013)، عملت الصين على إعادة تشكيل العولمة بمركزية آسيا، وتُعزز اليوم مكانتها عبر السعي للسيادة التكنولوجية في سباق الرقمنة والذكاء الاصطناعي. وبالموازاة مع ذلك لم يخفِ “شي” انتقاده غير المباشر لسياسات ترامب، مشيرا إلى أن “عقلية الحرب الباردة والتنمر لم تتبدد”، في رسالة بدت كإنذار استراتيجي: إما شراكة قائمة على النديّة، أو نظام عالمي بديل في طور التكوين.
لكن البعد الرمزي الأهم للقمة لم يكن في الكلمات وحدها، بل في المشهد العسكري الذي رافقها. حيث نظمت الصين عرضا عسكريا ضخماً بمناسبة مرور 80 عاما على التحرير من الاحتلال الياباني، بتكلفة بلغت 5 مليارات دولار (نحو 2% من ميزانية الدفاع 2025). لفت المشهد ظهور زعيم كوريا الشمالية لأول مرة في حدث متعدد الأطراف، مصافحا قادة العالم ومشاركا في العرض الذي اعتُبر الأكبر منذ عقود. وقف “شي” إلى جانب “بوتين” و”كيم” و”بزشكيان” في منصة واحدة، مطلقا رسالة مفادها أن “نهضة الأمة الصينية لا تُوقف”.
وكان هذا العرض إعلانا رمزيا بأن الصين أصبحت قطبا متكاملا قادرا على الردع الشامل، وأن القيادة الأمريكية لم تعد حتمية. كما مثّل ظهور “كيم يونغ أون” اعترافا بكوريا الشمالية كشريك كامل في “النظام الشرقي” الناشئ، وليس مجرد أداة ضغط غربية، مما يعكس تحولا جوهريا في موازين القوى العالمية.
فيما حضرت روسيا إلى قمة تيانجين بثقلها الجيوسياسي المُكتسب من سلسلة التفاعلات الدولية الأخيرة، حيث نجح بوتين في تعزيز موقعه التفاوضي عبر تفاهمات غير مُعلنة مع واشنطن (قمة ألاسكا) بشأن الملفات الشائكة مثل أوكرانيا والقطب الشمالي وأمن الطاقة. هذه التفاهمات، وإن لم تُدون رسميا، منحت موسكو شعورا متجددا بأنها لاعب لا يمكن تجاوزه على الطاولة الدولية. وانعكس هذا الزخم بوضوح في القمة، حيث ظهر بوتين أكثر ثقة يجمع بين خطاب التحدي للغرب ورسائل الانفتاح الواضح للحوار، مستخدما أسلوبه المعروف في “المخادعة الاستراتيجية” الذي يدمج بين المرونة والتصعيد وفقا لمتطلبات اللحظة.
أما الحضور الأوروبي المحدود فقد وجد نفسه أمام مشهد مُربك: بوتين الذي سعت دولهم لعزله بعد الحرب الأوكرانية، يجلس الآن بثقة إلى جانب قادة العالم محاطا بهالة من الدعم الشرقي. هذا المشهد قدم رسالة مزدوجة؛ للغرب مفادها أن روسيا لم تُعزل بل توسعت في تحالفاتها عبر آسيا، وللشركاء الجدد بأن موسكو قادرة على لعب دور الضامن الأمني والسياسي في النظام العالمي الناشئ. بهذه الطريقة، حوّلت روسيا نفسها من طرف مُتهم إلى شريك أساسي في تشكيل المعادلات الجديدة، مما يعكس تحولا عميقا في ديناميكيات القوة العالمية.
وبدت إيران في قمة تيانجين وكأنها تدخل مرحلة جديدة من تاريخها السياسي والديبلوماسي. فهي لم تعد أسيرة خطاب “الدولة المارقة” الذي طالما روجت له واشنطن، بل قوة إقليمية أثبتت في حرب يونيو 2025 التي امتدت 12 يوما أنها قادرة على إرباك حسابات تل أبيب وفرض شروط هدنة متوازنة، وهو أمر لم يحدث منذ عقود طويلة.
هذا التحول لم يكن عسكريا فقط، بل سياسيا أيضا، إذ قدم لإيران رصيدا تفاوضيا ثمينا مع جيرانها وخصومها على حد سواء. وكانت طهران منذ انضمامها الكامل إلى منظمة شنغهاي للتعاون سنة 2023، تراهن على أن تجد لنفسها موقعا في النظام الدولي الآخذ في التشكل. لكن قمة تيانجين منحتها ما هو أبعد من “الموقع”، إلى “الاعتراف”. فجلوس الرئيس الإيراني إلى جانب قادة روسيا، الصين، والهند، لم يكن مجرد بروتوكول بل إعلانا عمليا أن إيران باتت جزءا من معادلة الشرق الكبرى، وأنها لم تعد محصورة في خانة العقوبات والعزلة، بل في موقع التأثير والندية.
وجسّدت تركيا في قمة تيانجين أوضح صورة لـ”البراغماتية المزدوجة”. فمنذ انضمامها إلى الناتو سنة 1952، عُرفت أنقرة كلاعب مركزي في المنظومة الغربية. لكن خطاب أردوغان في القمة أظهر تحولا نوعيا، لم يعد يكتفي بتقديم نفسه وسيطا بين الشرق والغرب، بل أعلن أن بلاده لن تقبل منطق الابتزاز، سواء من واشنطن أو بروكسل. هذا الموقف يجد جذوره في سلسلة من الأزمات التي سمّمت العلاقة بين أنقرة وواشنطن: من الخلاف حول تسليم فتح الله غولن، مرورا بأزمة شراء منظومة الصواريخ الروسية S-400 عام 2019 وما تبعها من عقوبات أمريكية، وصولا إلى توتر ملف انضمام السويد للناتو الذي استخدمته أنقرة كورقة مساومة لانتزاع تنازلات.
هذه المحطات عززت قناعة تركيا بأن الاعتماد الكلّي على الغرب لم يعد يضمن أمنها ولا مصالحها الاستراتيجية. من هنا، بدا أردوغان في تيانجين أكثر انفتاحا على التكتل الشرقي، مؤكدا أن مشروع بلاده الأمني والاقتصادي يفرض عليها التنويع: الاستفادة من السوق الشرقية ومن مشاريع الطاقة والبنية التحتية التي تقودها الصين وروسيا، دون التخلي عن امتيازاتها داخل الناتو. بكلمات أخرى، تركيا لا تسعى إلى قطع الجسور مع الغرب، لكنها أيضا ترفض أن تُعامل كتابع، بل كقوة إقليمية تفرض شروطها. هذا التموضع التركي بين الشرق والغرب، وإن بدا مغامرة محفوفة بالمخاطر، يمنح أنقرة قدرة على المناورة في ملفات حيوية مثل البحر الأسود، سوريا، وملف الغاز في شرق المتوسط، حيث تحاول أنقرة أن تثبت أنها ليست مجرد ممر جغرافي، بل مركز ثقل استراتيجي.
ومن بين التحولات الرمزية التي برزت في قمة تيانجين، كان الموقف الأرميني لافتا للنظر. ف”نيكول باشينيان”، رئيس الوزراء الأرميني، ظهر بوجه قلق وهو يذكّر بأن “الدول الصغيرة لا يجب أن تكون رهينة لمساومات الكبار”. خلف هذه العبارة تختبئ معضلة أرمينيا العميقة، بلد محاصر جغرافيا بين المطرقة الروسية والسندان الغربي، يعيش مأزقا وجوديا منذ اندلاع النزاعات مع أذربيجان، خصوصا في ناغورنو كاراباخ.
فحين انفجرت موجات العنف الأخيرة، اكتشفت يريفان أن الغرب لم يكن سوى شريك بالكلام؛ بيانات تضامن من بروكسل وواشنطن، لكن بلا تدخل عسكري أو دعم اقتصادي ملموس، تاركة أرمينيا وحيدة في مواجهة الأمر الواقع. هذه الخيبة الاستراتيجية دفعت القيادة الأرمينية إلى مراجعة خياراتها، والبحث عن بدائل أكثر واقعية. في تيانجين، بدا الميل نحو الشرق أوضح من أي وقت مضى: روسيا كحام تقليدي، إيران كجار قادر على كسر الحصار، والصين كقوة اقتصادية توفر شراكات عملية. هناك تحوّل من الرهان على الوعود الغربية إلى بناء تحالفات “قابلة للاختبار” على الأرض.
تظهر الولايات المتحدة في المشهد الدولي الحالي، كقوة تواجه مفارقة صارخة: فهي لا تزال مهيمنة لكنها تعاني من قلق متزايد إزاء تراجع نفوذها الأحادي. فاتهامات ترامب بـ”تآمر القادة” تعكس إدراكا عميقا بأن عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة الذي أعقب الحرب الباردة يقترب من نهايته. مثلت قمة تيانجين لحظة فارقة في هذا المسار، حيث برزت كإشارة واضحة إلى تعددية قطبية جديدة لم يعد فيها القرار الدولي حكرا على مراكز القرار الغربية التقليدية. في المقابل، تواصل واشنطن نهجا توسعيا يتناقض مع خطابها الرسمي، حيث تتعمق تدخلاتها العسكرية وتوسع نطاق حروبها تحت شعار “مكافحة الإرهاب”، الذي تحول إلى أداة للهيمنة والسيطرة على موارد الشعوب.
أما أوروبا، فتبدو وكأنها تقف على الهامش متفرجة على هذا التحول الجيوسياسي التاريخي. فمنذ الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة، أصبحت القارة رهينة للسياسات الأمريكية، تتحرك ضمن إطار ضيق من العقوبات والدعم العسكري دون قدرة حقيقية على المناورة المستقلة. حتى محاولات ماكرون المتكررة للحديث عن “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي” بقت حبيسة الشعارات، فيما عجزت بروكسل عن تحويلها إلى سياسة عملية.
في قمة تيانجين، كان الغياب الأوروبي صارخا، لا حضور فاعل ولا مبادرات، فقط مراقبة من بعيد لعالم يُعاد تشكيله من دونها. هذه الديناميكية تجسد التحول الأعمق في النظام الدولي، حيث لم يعد العالم يُدار من قبل الغرب وحده، بل برز نظام جديد تعددي تنفتح فيه مراكز القوى على أقطاب متعددة. فيما يظل السؤال المصيري مطروحا: هل سيتمكن الغرب من التكيف مع هذا الواقع الجديد ويتخلى عن وهم القيادة المنفردة، أم سيصر على التشبث بموقع لم يعد موجودا؟ التاريخ لا ينتظر، وآسيا لم تعد مجرد ملحق للنظام الدولي، بل أصبحت محركا أساسيا لمستقبله.