مسرح الحي، إعادة إحياء أم ولادة أخرى؟
المشاريع المدهشة في زمن مضى قد لا تدهشنا بالقدر نفسه في زمن لاحق مختلف، وأفضل ما يمكننا إهداءه لروحها هو التكريم. لا جدوى من محاولة بعث مجدها القديم، فحتى في صدق المحاولة، قد نتورط بحسن نية في النفخ على شمعتها المتقدة وإطفاء شعلتها في الوجدان والذاكرة. لا يوجد انبعاث كلي في مجال الإبداع، هناك تلاقح وولادات جديدة، لأن الفعل الإبداعي ليس نتاج الذات الفردية وحدها، بل هو تجلي للفعل الاجتماعي أيضا، وتتحكم فيه السياقات السياسية والثقافية والاحالات المشتركة للذات الجماعية.
بعد 27 سنة من الغياب، تعلن فرقة “مسرح الحي” عن عودتها إلى الخشبات بمسرحية تحمل عنوان “سْدّينَا”، من إخراج أمين ناسور ومن تأليف عبد الفتاح عشيق وسينوغرافيا طارق الربح. عودة تأخرت طويلا، بعد أن تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر، وبعد أن تغيرت معايير ومرجعيات وحسابات الإنتاج والتلقي في المشهد الثقافي والفني بفعل التحولات الرقمية والاجتماعية والسياسية. فهل عادت الفرقة فعلاً أم خُيل لنا؟ وهل نجح صناع عملها الجديد في بعث روحها التي شكلت وجداننا الفني والثقافي في سياق مغرب التسعينيات؟
الجواب سهل ومستعص، فالمسرحية قد قدمتها ماديا فرقة “مسرح الحي”، الفرقة بالمعنى المؤسساتي الوظيفي، الفرقة في الأوراق الرسمية كإطار مدني فني لا يزال مسجلا في اسم مؤسسيها نجمي المسرح والدراما عاجل عبد الاله وحسن فلان، والمسرحية قُدمت بمشاركتهما الفعلية وبحضورهما الفني والتشخيصي الجميل على خشبة المسرح؛ لكن هل كان ذلك كافيا للإقرار بعودة مسرح الحي؟
أظن، لم يكن كافيا لصناعة حدث العودة الرمزية، والجمهور الغفير الذي حضر العرض ما قبل الأول للمسرحية خرج بخيبة أمل، ليس بسبب مضمون وشكل العرض الذي كان موفقا، بل بسبب غياب الصيغة الأصلية للفرقة، فقد حضر الاسم، و حضر عاجل وفلان، ولم تحضر الهوية الفنية لفرقة مسرح الحي، تلك الهوية التي لا تزال محفورة في ذاكرة عشاق الفرقة، الهوية التي تتأسس على البطولة الجماعية، على الكوميديا المباشرة، وعلى تنوع تقنيات العرض الارتجالي لنجومها، الذين كانوا يتنافسون فيما بينهم على الركح من أجل جذب الجمهور وكأنهم في مسابقة لتلفزيون الواقع، في تماهي مطلق مع شخوص المسرحيات وانضباط لوحدة الموضوع والخط التسلسلي للحكي.
اليوم، تعود الفرقة فعلا، لكن لم يعد معها مسرحها، فما شاهدناه على خشبة مسرح محمد الخامس تلك الأمسية الربيعية الدافئة كان تجريبا مسرحيا مختلفا، ومشروعا فنيا جديدا له فلسفته الجمالية الخاصة. هيمنت على تفاصيله ومشاهده روح الجيل الجديد المنتمي إلى عصر الصورة والاختزال والتعبيرات الرقمية المتشظية، ولمعت أضواءه بجاذبية الطاقات التشخيصية المدهشة لنجوم الشاشة الجدد: مريم الزعيمي ومونية المكيمل والمهدي فلان وأيوب أبو النصر. ورغم محاولات المخرج أمين ناسور في بعض المشاهد التنازل عن خطه الفني الصارم وإهداء الفنانين عبد الاله عاجل وحسن فلان فسحات داخل العرض لإقحام “مونولوغات” مسترسلة محاكاةً لأسلوب المدرسة الفنية لمسرح الحي، فإنه ظل مع ذلك متحكماً في إيقاع سرده المشهدي المتفرد الذي عودنا عليه في مسرحياته السابقة، والذي ينتصر للشكل وتكثيف المعنى وحركية الأداء والفرجة البصرية والموسيقية.
يمكن اعتبار مسرحية “سْدّينا” لحظة تكريم لذاكرة مسرح الحي موقعة بمشاعر العرفان والتقدير من بنات وأبناء الجيل الجديد، يمكن الاحتفاء بها كمشروع فني مثالي لتلاقح الأجيال، يمكن القول بأنها ولادة جديدة للفرقة بروح مسرحية مختلفة، ويمكن قراءتها كترويج ذكي واحتفالي لعودة الفنانين عاجل وفلان للخشبة التي افتقداها طويلا، وقد كانت عودة باذخة ومبهجة فعلا، لكن لم تكن عودة للفرقة كمشروع جماعي، بل عودة لذاتهما المبدعة كممثلين مسرحيين، وأجمل ما في هذه العودة هو مرونتهما الفنية وتسليمهما بحتمية التطور و توفقهما في الانصهار السلس والطوعي مع روح الجيل الجديد.