مستقبل غزة المظلم
عندما نتحدث عن غزة اليوم، فإننا لا نتحدث فقط عن أرض محاصرة أو شعب يرزح تحت وطأة الحصار والقصف، بل عن اختبار تاريخي لمبادئ الإنسانية والكرامة التي نادت بها الحضارات عبر العصور. والتحدي الذي يواجهنا ليس مجرد تحدٍّ ميداني في ساحة الحرب، بل هو تحدٍ أخلاقي يعصف بوجدان كل من يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان.
إن ما يمر به الشعب الفلسطيني اليوم هو انعكاس لتقصيرنا وتراخينا أمام قوة الظلم. ولأن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع، علينا أن نعيد النظر في مواقفنا، ونسائل ضمائرنا عن مدى استحقاقنا لهذه القيم التي نرفعها شعارًا دون أن نحرك ساكنًا في سبيل تحقيقها.
إننا نقف عند مفترق طرق، حيث يكون لسكوتنا ثمن، ولحراكنا مسؤولية عظيمة، فإما أن نكون أهلًا لهذه اللحظة التاريخية، أو نُحكم على أنفسنا بالخزي الأبدي.
ما يجري اليوم في غزة يتجاوز كونه مجرد صراع عسكري أو معركة دموية تنتهي مع وقف القصف. إننا أمام مشهد سياسي معقد، تتشابك فيه المصالح الدولية والإقليمية على حساب الدم الفلسطيني.
فبينما يُقتل الأبرياء وتُهدم البيوت، تُعقد الاجتماعات في الكواليس الدبلوماسية لتحديد شكل مستقبل غزة. ووفقًا للتقارير الحديثة، فإن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يدرس خطة ما بعد الحرب، التي جاءت نتيجة اتصالات إسرائيلية وإماراتية، وهدفها المعلن هو إعادة إعمار غزة وتنظيم حياتها اليومية. ولكن ما يظهر بين السطور هو محاولة لفرض واقع جديد، يُهمّش القيادة الفلسطينية ويضع مستقبل غزة تحت وصاية دولية، تفرضها شروط سياسية قاسية.
الخطة المرسومة، كما فصّلتها صحيفة “أكسيوس” في مقال حديث لها، لا تهدف إلى حل الصراع بشكل دائم، بل هي مجرد صفقة سياسية ستؤدي إلى إضعاف السلطة الفلسطينية، وتحييد الرئيس محمود عباس، وإعادة تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية وبعض القوى الإقليمية.
وبينما تقضي هذه الخطة بإرسال قوات دولية لتقديم المساعدات الإنسانية وإرساء النظام في غزة، فإن الشروط المسبقة لهذه المساعدات تنص على ضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية، واستبدال القيادات الحالية بأخرى تكون أكثر ولاءً للأجندات الخارجية.
وهنا لنتساءل بصدق: هل يُعقل أن يكون حل غزة، وهي جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، مرهونًا بخطط لم يستهم فيها الفليسطينيون؟ وهل يمكن أن تقبل الأمة العربية بأن تُحدد مصائر الشعوب على طاولة مفاوضات سرية بين القوى الكبرى، في ظل صمت مطبق من العواصم العربية؟ إن هذه المحاولة لإعادة صياغة مستقبل غزة هي جزء من لعبة أكبر تهدف إلى تحييد المقاومة الفلسطينية وتفكيك وحدتها، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل إحكام قبضتها على الأرض.
في هذا الإطار، لا يمكننا تجاهل الصمت والتواطؤ العربي الذي أصبح صفة ملازمة لكثير من الأنظمة. لم تعد قضية فلسطين هي الأولوية كما كانت من قبل، بل أصبحت تُستغل كورقة ضغط أو تُهمل بالكامل.
هذا الصمت لا يُمثل فقط خذلانًا للشعب الفلسطيني، بل هو تواطؤ مباشر في الجريمة. كيف يمكن لدولنا أن تبقى متفرجة على تدمير غزة، وهي تعلم جيدًا أن الخطة الحقيقية ليست فقط إعادة إعمار، بل هي إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني بما يخدم المصالح الاستعمارية الجديدة؟
إذا نظرنا إلى لبنان، نجد أنه يقف على حافة الهشاشة السياسية والاقتصادية، في ظل مراقبة متوترة لما يجري في غزة. يدرك حزب الله أن أي تصعيد من جانبه قد يؤدي إلى اندلاع مواجهة أوسع، ولكنه أيضًا محاصر بين تحالفاته الإقليمية وحسابات الداخل اللبناني.
أما إيران، فهي تدرك أن دعمها للمقاومة الفلسطينية يبقى رمزياً ما لم تتمكن من تجاوز الضغوط الدولية والعقوبات الخانقة التي تقيد تحركاتها. هكذا، نجد أن القوى الإقليمية مشدودة إلى مصالحها الذاتية، بينما يُترك الشعب الفلسطيني وحيدًا في مواجهة آلة القتل.
كل هذا يجري بينما غزة تحترق، والمستشفيات تُقصف، والمساعدات الإنسانية تُمنع، واللاجئون يُحاصرون في خيامهم أو يُحرقون أحياءً تحت القنابل. الضحايا بالمئات، وأعداد الجرحى لا تُحصى، ومع ذلك، تُسكت الأصوات الدولية التي تنادي بالعدالة.
الخطط التي يُروج لها تحت اسم “إعادة إعمار غزة” هي محاولة لإعادة تدمير الوعي الفلسطيني. إنها تهدف إلى فصل غزة عن محيطها الفلسطيني والعربي، وتحويلها إلى منطقة تعيش تحت وصاية دولية لا تعترف بحقوقها ولا بتاريخها. ولعل الأكثر خطورة في هذا كله هو أن هذه الخطط تُطرح وكأنها منقذ للشعب الفلسطيني، في حين أنها تُجهز على أي أمل في تحقيق الحرية والاستقلال.
إن ما يجري في غزة اليوم هو امتحان حقيقي للضمير العربي والدولي. فإما أن نرى تحركًا حقيقيًا يرفض هذه المخططات ويعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، أو أن نترك الأمور تسير نحو تصفية نهائية لحقوق الشعب الفلسطيني، لتصبح غزة رمزًا للهزيمة والاستسلام.
كيف نبرر هذا الصمت؟ كيف نقف متفرجين بينما يُباد شعب كامل، وتُمحى مدينة من الوجود تحت ركام قنابل لا ترحم؟ غزة ليست مجرد اسم على خريطة الصراع، إنها روح مقاومة تختنق، وجسد ينزف في كل لحظة، في كل بيت مدمّر، في كل أم تحتضن طفلها الميت. أيها العالم، متى أصبحت الكرامة مجرد كلمة في بيانات الأمم؟ متى صار العدل مشروطًا بحسابات السياسة والمصالح؟