مرض الفقراء ثروة الأغنياء
كشف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عن خلاصات تقرير جديد أنجزه بإحالة ذاتية، يقدّم تفسيرا جديدا لنقمة الحكومة الحالية والحزب الذي يقودها على مؤسسات الحكامة، وعلى هذا المجلس تحديدا.
فبعد تجريف المشهد من كل ما يمكنه أن يلعب دور السلطة المضادة للماسكين بزمام القرار، بات مثل هذا التقرير الخاص بتقييم ورش تعميم التغطية الصحية، من آخر الأدوات المتاحة لتحقيق حدّ أدني من التوازن في تقييم الأداء السياسي والتدبيري للحكومة.
عصارة هذه الوثيقة التي صادقت عليها الجمعية العامة للمجلس، وخُصصت لها ندوة صباح الأربعاء 20 نونبر 2024، أن الأمر الوحيد الذي نجح بشكل سريع وشبه فوري في هذا الورش الذي يتميّز بالملايير المتدفقة من جيوب المرضى والمعطوبين؛ هو جعل هذا الكنز المالي يصبّ بشكل كلّي وشامل، في حسابات المستثمرين الكبار في المجال الصحي، في مقابل غياب شبه كلي لمنظومة طبية عمومية يمكن أن يلجأ إليها المغاربة، سواء كانوا فقراء أو أغنياء.
أبرز معطى كشفته الوثيقة التي تعتبر نتاج مسار شديد الصرامة وبالغ الدقة، لما راكمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من تجربة، هو أن قرابة 8.5 مليون مغربي، ما زالوا خارج نطاق التغطية الصحية، أي قرابة ربع الساكنة، عكس الأرقام التي تقدّمها الحكومة، وتزعم فيها أن أكثر من ثمانين في المئة من المغاربة باتوا مشمولين بالتغطية.
والسبب في هذا الفرق بسيط، ويتمثل في نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون مغربي، تم تسجيلهم في نظام التغطية الإجبارية عن المرض، لكنهم لا يستطيعون الاستفادة منها لكون حقوقهم “مغلقة” بسبب عدم انتظامهم في دفع الاشتراكات الواجبة.
وعندما نضيف إلى هؤلاء نسبة 36 في المئة من المغاربة المتمتعين بالتغطية الصحية، لكنهم يمتنعون عن التقدّم للاستفادة من العلاج بسبب الفرق الكبير الذي يجب عليهم تحمّله، أي ضعف التعويضات التي ستصدف لهم من طرق الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بالخصوص، فإننا نصبح عمليا أمام قرابة نصف الساكنة المغربية محرومة من الأثر المنتظر من وراء هذا الورش الكبير.
التقرير أوضح أن مبالغ التعويضات التي تصرفها صناديق التغطية الصحية لفائدة المرضى، لا تصل حتى إلى ثلث الكلفة الإجمالية التي يتطلبها العلاج، خاصة منه العلاج المتخصص، حيث تظل التعريفة المعتمدة في تحديد قيمة التعويضات بعيدة عن الكلفة الحقيقية.
أي أن التغطية الصحية لا تحقق واحدا من أهم أهدافها، وهو تخفيف العبء المادى للمرض على الأسر المغربية.
التقرير يقول إن منظمة الصخة العالمية توصي بعدم تجاوز حصة المريض من الكلفة الإجمالية للعلاج، سقف 25 في المئة، بينما تتجاوز عتبة 50 في المئة في حالة المغرب.
أما إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية صحية صرفة، فإن 60 في المئة من المغاربة غير المتمتعين بتغطية صحية، يمتنعون عن طلب الاستفادة من العلاج بسبب كلفته المرتفعة، وبالتالي نحن أمام جيش من المرضى والمعطوبين المستسلمين لقدرهم، يأكلون القوت وينتظرون الموت.
وعندما سُئل المواطنون المغاربة غير المتمتعين بالتغطية الصحية، وفقا للدراسة التي أنجزها المجلس في إطار هذا التقرير، هل يرغبون في الانخراط فيها، فإن 52 في المئة منهم قالوا “لا”، أي أن هذه المنظومة لا تشكّل مصدر إغراء.
أخطر ما كشفته الوثيقة الجديدة، هو التدفق شبه الكلي لأموال صناديق التغطية الصحية في حسابات المصحات الخاصة، حيث تحصل هذه الوحدات الاستثمارية على أكثر من 96 في المئة من نفقات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المخصصة لتغطية نفقات علاج كل من أجراء القطاع الخاص والمهنيين غير الأجراء. ونحو 84 في المئة من نفقات علاج موظفي ومتقاعدي الإدارات العمومية تكون من نصيب المصحات الخاصة. بل إن هذه الأخيرة تنال حصة الأسد من نفقات علاج حتى الفقراء والمعدمين المستفيدين من “آمو تضامن”، بنسبة تناهز 57 في المئة.
الأدهى والأمرّ، هو ما كشفه التقرير الجديد عن الفرق بين كلفة العلاج في القطاع الخاص مقارنة بالمستشفى العمومي، والتي تصل إلى قرابة ستة أضعف (5.6 مرات).
فرق شاسع فسّره رئيس المجلس أحمد رضا الشامي، الذي أعيد مؤخرا إلى سفارة المغرب لدى الاتحاد الأوربي بعد “غضبة أخنوشية” عليه، بغياب بروتوكولات علاجية دقيقة تحدد ما ينبغي أن يخضع له المريض من فحوصات وعلاجات، ما يجعل المصحات الخاصة تثقل كاهله بمصاريف غير ضرورية. كما يثير هذا المعطى عنصر الأخلاقيات ومدى فعلية الرقابة التي يفترض في بعض الهيئات والمؤسسات القيام بها.
ومما يزيد استنزاف منظومة التغطية الصحية ماليا، هو اشتراط وجود وصفة طبية ضمن الملف الطبي كشرط للاستفادة من استرداد نفقات العلاج، وهو ما يعتبر تشجيعا لاستهلاك الأدوية، وتعطيلا لعنصر الوقاية، أي الحصول على الاستشارات الطبية دون اللجوء بالضرورة إلى الأدوية، وهو ما يعني تفاقم الأمراض وتأخر التشخيص إلى حين تفاقم الحالة المرضية.
قصة حزينة لورش إصلاحي كبير يمكنه أن يشكل ثورة حقيقية في المجال الاجتماعي. لكن هناك طرف واحد لا شك أنه سعيد للغاية، وهو الرأسمال الخاص الذي تتلقف حساباته كل ما تنتجه هذه المنظومة من أموال، سواء منها الملايير التي تخصصها ميزانية الدولة لتغطية كلفة التغطية الصحية التضامنية، أو التي توفرها اشتراكات الفئات الجديدة التي جرى إخضاعها لإجبارية التغطية الصحية.
ولا يعني المضيّ في هذا الورش في ظل المعطيات الحالية، خاصة منها معطى وجود 1.8 مهني طبي لكل ألف نسمة، مقابل حدّ أدنى تحدده منظمة الصحة العالمية في 4.45 مهني طبي لكل ألف نسمة؛ سوى المزيد من “الشحمة في ظهر المعلوف”، وبناء آلة ضخمة تحول أمراض الفقراء إلى ثروة بين أيدي الأغنياء.