story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

مدونة.. ومشتبه به

ص ص

صدرت المقترحات التي كان يُتوقّع أن تكون محلّ خلاف في النص القانوني المتعلّق بمدونة الأسرة واحتاجت نظراً شرعياً قبل دخول مسار التشريع، وأثارت، كما منتظرٌ، النقاشَ، وستثير نقاشاً أكبر عندما تتجسّد في نصوص قانونية للاعتماد.

الأصل أن تُناقش المؤطرات العامة للقانون، ومسودات القانون ذاته، بكل حريّة، من كل العائلات السياسية والفكرية، والأفراد، لأن القانون يمثّل مختبرا صغيرا للهويات والتعبيرات الإيديولوجية المتساكنة في هذا الوطن.. الأصل أن يجري النقاش على أوسع نطاق، ومن حقّ الجميع أن يكون له رأي وصوت مسموع، لخصوصية القانون، ولضرورة النقاش الذي سيعبّر جزئيا عن حقيقتنا كمجتمع.

ليس في وُسعِ أي أحد أن يتعَالَم على حق المغاربة في التعليق على ما يعنيهم في تفاصيل حياتهم وحميمياتهم وأنماط علاقاتهم، كما ليس في وُسع أي أحدٍ أن يتوهّم أنه الأعْرفُ بالمصلحة العامة. وإن كانت بعض المساحات لا تزال تقع تحت النظر الشرعي، برعاية أعلى سلطة سياسية، فإن نقاش الناس لا يجب أن يُصادر باسم القداسات، أيّاً كانت (شرقية أو غربية).

ما جرى عرضه حتى الآن هي بحكم الاقتراحات المؤطرة بشأن وضعيات كانت تحتاج اجتهاداً وتحكيماً ملكياً، لكن لا يعني ذلك أنها قانونٌ سيفتح القضاة صفحاته للفصل بين الناس. هذه الاقتراحات غير نهائية، وغالبا لن يتم تضمينها بحرفيتها في مسودات القانون، إذ لا تزال تحتاج تدقيقات وملء فراغات وتصويب اختلالات في إطلاقياتها، وإن كانت تقلّص بعض مساحات المختلف بشأنه. وفي تفاصيل القانون ستكمن الكثير من “الشياطين”، وحينها سيستقيم كثيرٌ من النقاش.

وعموما، وإلى حين تسويد القانون وطرحه، أسجّل ملاحظات عامة:

ـ النقاش يجري إلى الآن بمنسوب احتقان أخفّ بالمقارنة مع عهد خطة إدماج المرأة في التنمية، التي “قسمت” المجتمع، وفجّرت تناقضات، ضمن منسوب تسييس أعلى.

ـ المؤسسة الملكية أخذت المبادرة وضبطت إيقاع التعديل وفعّلت حقل التحكيم قبْليّاً فيما يُتوقع أن يكون محلّ جدل، وحدّدت مساحات نقاشه وسقوفه، وألزمت الجميع بمنهجية تسحب التداول إلى النخبوية حتى الآن، وضيّقت مجال التسييس نحو تحقيق نفعية أكبر في اتجاه التعديل.

ـ يثبت قلب النظام السياسي مرة أخرى أنه يشتغل ضمانةً لفرملة أي نزوع لا يبدو المجتمع مستعدّا لها (تحديث قبل أوانه)، أو أنه تجاوزها (محافظة فات أوانها).

ـ بعض المقترحات تبدو توافقيةً وتقف في منطقة وسط، بما فيها تلك الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى، الذي استجاب للمطلب الملكي بالانفتاح على قاعدة (عدم تحليل الحرام أو تحريم الحلال). ومع ذلك، فبعض اجتهادات المجلس بنظر محافظين بحكم الخطوة الأولى والممهّدة لقراءات أكثر تحررا (يعتبرونها خروجاً عن النص).

ـ اشتغل عبد اللطيف وهبي أرنب سباق في هذا المسار الذي يسبق التشريع، أو بالون اختبار، لاستمزاج المجتمع بشأن تقبّله لبعض التعديلات، التي تنسحب إلى تغييرات قيمية في أنماط العلاقات بين الأفراد، وفكرة الأسرة، وإمكان إيجاد أنواع أسرة جديدة أو بديلة.

ـ يظهر أنه في بعض الاقتراحات انزلقت الرغبة التوفيقية التوافقية إلى التلفيقية التي يجب تجاوزها عند تفصيل القانون. فمن حيث أرادت التمكين لحقوقٍ، تفتح الباب للتعسّف على حقوق أطراف أخرى.

ـ شعبيا، وخاصة في صفوف الشباب الذكور، هناك حالة توجّس واستعداد لتقبّل فكرة وجود استهداف يتبلور خطاب عزوف عن الزواج. يجب الاستدراك، وإشاعة حوارٍ سليم، يتجنّب التجييش والتغليط. سيكون مفيدا الاجتهاد أكثر نحو الموازنة للتأسيس لعلاقات سويّة، ومنصفة، وتضمن الاستقرار الأسري والمجتمعي، لا افتعال أعطابٍ جديدة، واستبدال اختلالات قائمة باختلالات قادمة.

حتى لا ننسى

مرّ ما يقرب من أسبوعين على سقطة رئيس الحكومة عزيز أخنوش في البرلمان، حين دافع، بصفته الدستورية، عن أحد استثمارات شركاته في صفقة تحلية مياه البحر في الدار البيضاء. كان أخنوش في وضعية (اللي جا يكحّل ليها عماها). أغرق نفسه كرئيس حكومة في شبهة تضارب المصالح من حيث أراد الدفاع عن استثماره.

في مثل هذه الحالات، وبحسب منطق الأشياء، تتوقع أن يكون هناك أثرٌ للحدث الذي أذهلنا رئيس الحكومة باقترافه. لكن، تحوّل الأمر إلى قصةٍ عابرة للزمان، ومرةً أخرى نهدر فرصة لتحقيق المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة.

لم يخرج رئيس الحكومة للاستدراك على كلامه، ولا حتى للتوضيح، واعتبر عمليا أنه غير معنيٍ بكل الجدل الذي أثاره، ولم يشعر بأدنى مسؤولية سياسية للتجاوب والردّ على طيفٍ من المشهد السياسي والإعلامي والحقوقي والشعبي. هذا يعني شيئا واحدا: سيرو شربو لبحر.

إن لم يتم تفعيل مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في هذه النازلة، فلا أعرف على من ينطبق تحديدا. نحن بإزاء وضعية تتوفر فيها كل أسباب الاشتباه في تضارب المصالح، حين يشرف رئيس الحكومة بصفته وصلاحياته في السلطة التنفيذية على صفقة باسم الدولة مع القطاع الخاص تؤول لإحدى شركاته، وفوق ذلك يستغل زمن ومكان مساءلته الشهرية عن سياساته الحكومية للدفاع عن استثماره.

الدستور وعموم القوانين لا توضع كأثاث للزينة. القانون لا يكتسب أي قيمة إلا بالقدرة على تنفيذه والإلزام به، بغض النظر عن المناصب والمواقع. وهناك الآن شبهة تضارب مصالح واضحة تطلّ برأسها على الجميع، وبمنطوق رئيس الحكومة نفسه، فلا أجد أي سبب للتغاضي في هذا البلد عن كل هذا، والاستمرار كأنّ شيئا لم يقع.

إلى الآن، احتَرَزَ أغلب العقلاء ولم يتجاوزوا إلى إدانة مطلقة لعزيز أخنوش واستعملوا تعابير تبقي باب براءة رئيس الحكومة مفتوحا، بالتشديد على وجود شبهة. هذا التحفّظ الواجب والمعقول، والذي يحفظ لرئيس الحكومة كل حقوقه، لا يمكن أن تكتمل نفعيته إلا بتحمّل أطراف أخرى في مؤسسات الدولة مسؤولية التدقيق والتمحيص والتحقيق لاستخلاص الحقيقة وفق القانون، وترتيب الأثر بناء عليها، بإثبات وجود تضارب مصالح أو نفيه.

بهذا وحده نكون أمام منطق الدولة، الذي تبعث برسالة أن الجميع سواسية أمام القانون، وأن غاية الإنجاز لا تبرّر أية وسيلة، وأن للقانون فوْقيةً مرعيةً، من رئيس الحكومة وكل المسؤولين. هذا ما يُشيع الاطمئنان ويُثبت أننا نعيش في دولة لا في (..).

إلى الآن يبدو أن الآذان لربما صمّاء عن سماع الأصوات التي ترى أنّ هناك شبهة لتضارب المصالح. ويبدو أن الدولة لا تريد إنهاء الجدل بالتحقيق، لتتمّ تبرئة أخنوش إن لم يكن قد خالف القانون وتجاوز على منصب رئيس الحكومة، أو إدانته إن كان قد تجاوز القانون. إن جرى التحرك للتحقيق، وفي أيٍ من الحالتين، سواء الإدانة أو التبرئة، ستكون الدولة والمجتمع ربحا بتكريس وضعية جديدة لا يعود فيها أي مسؤول يعتقد أنه فوق المحاسبة أو أنه محميٌّ، أو أن الدولة “وكالة بدون بوّاب”.

هذا ما أنتظره وأتوقعه.. أما التجاهل فسيكون فتلاً في حبل الإحباط الذي نتمنى أن يُقطع لصالح دولة القانون.

قصارى القول

يوم اختار الإنسان مغادرة منطق الغاب والأخذ بالعنف ضمن منطق الغلبة للقوي ضد الضعيف، والتأسيس لفكرة الاجتماع ثم الدولة، تنازل لصالح فكرةِ القانون المُلزم للإنهاء مع “شْرع اليد”. كل ما انتهت إليه الحضارة البشرية يكتسب قيمته من عُلوية القانون المتوافق عليه من الجماعة البشرية الواحدة، وهو الضمان للاجتماع واستمرار المجتمعات الحديثة.

إذا ما جرى استسهال التعدّي على القانون والإشاعة بين الناس أنهم ليسوا سواسية أمامه، فإننا نكون بإزاء لحظة تحلّلٍ من توافقات كبرى تضمن الاجتماع البشري في الكيان الواحد المسمى الدولة الحديثة. أما أن يقع تحت شبهة خرق القانون المستأمنون على حفظ القانون، فسنكون في حالة ترسيخ شعور بالانتقائية والاستغلال من الأقوياء للتوافقات الكبرى، القاضية بأن يكون الجميع تحت سقف الدولة والقانون، لانتهاك القانون لصالح المصلحة الخاصة. ألم نتعلّم في مدارسنا قولا عن الرسول (ص) لا يُسنى: (إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ). لا نريد التهلكة لأحد، نريد تطمينا وحيدا واحدا: لا أحد فوق القانون، ولا أحد فوق المساءلة. بكل بساطة.