مخاطرة من أجل الوطن!
سهرت ليلة أمس لمشاهدة التسجيلات الكاملة لكل من جلسة مساءلة رئيس الحكومة في مجلس النواب يوم الاثنين الماضي (16 دجنبر 2024)، والوقائع الكاملة للندوة الصحافية التي نظّمها حزب العدالة والتنمية بطريقة ال”تيكي تاكا” جاعلا أمينه العام عبد الاله ابن كيران قلب هجوم وكلا من إدريس الأزمي وعبد الله بوانو كظهيرين، أيمن وأيسر.
كما هو الحال في كل مرة أعزم فيها على التحضير للكتابة عن موضوع ما، تغيّرت لدي “زاوية المعالجة”، وتخلّيت عن نظرتي المتشائمة والسوداوية، بعدما استمعت باهتمام بالغ لخطاب رئيس الحكومة أمام البرلمان، وتابعت كيف تحدث بحماس وطني مؤثر عن “المخاطرة الجريئة” التي تحملها المستثمرون في مشروع تحلية مياه البحر.
تأثرت لدرجة أنني كدت أذرف دموع الفخر، لولا أنني تذكرت “الندوة المغرضة” التي نظمها حزب العدالة والتنمية، والتي كشف فيها أعضاء الحزب بتفاصيل دقيقة كيف أن المشروع مدعوم بأراض مجانية، وقروض ميسرة، وضمان شراء مسبق لمدة ثلاثين عاما، وامتيازات ضريبية. يا لها من “مخاطرة”!
بعد تفكير عميق، قررت أن أكون إيجابيا لا عدميا، وأخوض المخاطرة بدوري “من أجل الوطن”.
لن أقف مكتوف اليدين، سأطلق العنان لمجموعة من المشاريع الجريئة، التي تتطلب شجاعة استثمارية خارقة، تماما كالشجاعة التي دفعت المستثمرين لتحلية مياه البحر وهم يعلمون أن الربح مضمون بالدعم الحكومي.
فالوطن يحتاج لمغامرين مثلي، يملكون الجرأة على الاستثمار في اللاشيء وتحويله إلى ذهب… ومدعوم طبعا بضمانات من الخزينة العامة. ولأنني مواطن صالح ولست “طمّاعا”، قرّرت تقاسم أفكار مشاريعي المليئة بالمخاطرة، ولنتنافس بحرية والبقاء للأخطر.
أول ما ينبغي للمستثمرين المخاطرين تعلّمه، هو الدرس الذي يقدّمه البطل القومي في الاستثمار المُخاطر، عزيز أخنوش.
فتصريح رئيس الحكومة أمام البرلمان، لم يكن مجرد كلمات عابرة، بل كان دراما من الطراز الرفيع، صُنعت لتُقنعنا بأن مشروع تحلية مياه البحر هو مغامرة شجاعة، وأن المستثمرين أبطال قوميون يواجهون المجهول.
عندما تأملت التفاصيل، اكتشفت أن هذا “المجهول” ليس هو تمر الواحات التي استنزفت مياهها الجوفية، بل هو في الحقيقة طريق مفروش بضمانات الدولة، وأرباح تُحصى قبل حتى أن تبدأ الأعمال.
على رواد الأعمال الجدد أن يتخلوا عن كتب “ستيف جوبز” و”إيلون ماسك”، ويطلبوا دورة تدريبية لدى رئيس الحكومة وشركائه، ليتعلّموا كيف يتحوّل البحر إلى ذهب بضمانات وطنية لا تهتز.
وهذا دليل عملي للمخاطرة بأرباح مضمونة:
· بحر مجاني: المياه الخام تأتي مباشرة من البحر، ولن يدفع المستثمرون حتى تكلفة الوقوف على الشاطئ لجمعه.
· أرض مجانية: الدولة تقدم الأرض بسخاء، وكأنها توزع قطع كعكة لا تُرد.
· ضمان شراء المنتج: الدولة تلتزم بشراء المياه المحلاة لمدة 30 عاما كاملة، مهما حدث، سواء انخفض الاستهلاك، أو زاد العرض، أو حتى قرر الناس شرب المطر.
· إعفاءات ضريبية خاصة: قبل أن تخاطر شركات أخنوش وحلفائه، تقدّم فريق الباطرونا في مجلس المستشارين بتعديل للقانون المالي يمنح الشركات المحدثة بعد يناير 2023 تخفيضات ضريبية سخية، صُممت على المقاس.
هذا كلّ شيء، احصل على هذه العناصر وخاطر بكل اطمئنان.
وحتى لا تكون أفكار المشاريع التي تصلح للمخاطرة عائقا أمام المبادرة الحرة والسوق الشفاف، إليكم بعض الأفكار البسيطة التي يمكنكم المخاطرة بالاستثمار فيها إلى جانبي:
- تغليف الهواء الطلق:
لقد تعب المغاربة من استنشاق الهواء المجاني الذي لا يأتي معبأ في زجاجات أنيقة. لكن لا تقلقوا، فمشروعي هذا سيحول الهواء الطلق، هذا المورد الوطني المهمل، إلى سلعة استراتيجية. سأضع أنابيب عملاقة في أعالي الجبال لجمع الهواء النقي، ثم أغلفه في زجاجات تحمل شعارات وطنية مثل “هواء الأطلس للشرفاء فقط”.
- إنتاج ضوء القمر المعبأ:
من لا يحب ضوء القمر؟ تلك الإضاءة الحالمة التي تلهم الشعراء وتجعل العشاق يتهامسون. مشروعي هنا بسيط: سأضع مرايا ضخمة تعكس ضوء القمر إلى ألواح شمسية متطورة، ثم أعبئه في أنابيب شفافة، وأبيعه للدولة كمصدر “إضاءة رومانسية استراتيجية”.
- مراقبة المياه الساكنة:
لدى البحيرات والسدود قصة لم تُروَ بعد، وأنا مستعد لتوثيقها. سأقوم بتركيب كاميرات متطورة تحت الماء لتسجيل كل حركة، أو حتى عدم الحركة، في هذه المسطحات المائية. ماذا لو قررت المياه البقاء ساكنة؟ لا مشكلة، سنبثّ فيديوهات بطيئة تحت عنوان “الهدوء الوطني العميق”.
- تصدير الرمال الذهبية:
لماذا نترك رمال الصحراء تذروها الرياح بينما يمكننا بيعها؟ سأبدأ بجمع الرمال الصحراوية، تغليفها بورق ذهبي، وتسويقها كمنتج فاخر يحمل شعار “رمال المغرب: ثروة لا تنضب”. المخاطرة؟ قد يكتشف الناس أن الرمال هي نفسها الموجودة أمام منازلهم.
- تصدير غيوم الأمطار:
هل تعلمون أن الغيوم تمر فوق رؤوسنا يوميًا دون أن ندفع لها شيئا؟ حان الوقت لاستغلال هذه الموارد المهملة. سأقوم بجمع الغيوم باستخدام شبكات متطورة، ضغطها في عبوات، وبيعها للدولة لتوفير “مطر استراتيجي”.
- تربية النمل لأغراض استراتيجية:
من قال إن النمل كائن غير منتج؟ سأبني مزارع عملاقة للنمل، وأدربه على مهام وطنية، مثل حفر الأنفاق الصغيرة أو تنظيف الحدائق. النمل كائن عنيد، ولكن إذا قرر الإضراب، فإن الدولة ستدفع له تعويضات “تقاعد مبكر”.
- مصنع لتجميد الجليد:
ما الحاجة لتجميد الجليد؟ لأننا يمكننا! سأستورد الجليد من القطب الشمالي، ثم أعيد تجميده في مصانع متطورة للحفاظ عليه “باردا جدا”، قبل بيعه للدولة كمخزون استراتيجي للطوارئ.تتمثل المخاطرة في كون الجليد قد يذوب في الطريق. لكن هذا ليس مشكلة؛ العقد الحكومي سيضمن شراء الماء الذائب تحت بند “استغلال الموارد الذائبة”.
- احتضان الظل:
هل تعلمون أن الظل هو مورد طبيعي غير مستغل؟ سأبني مرايا ضخمة لالتقاط الظلال من الأشجار والمباني، وتوزيعها على المناطق المشمسة. المشروع سيحمي المواطنين من أشعة الشمس، وسيجعل الظلال منتجا استراتيجيا. الدولة ستشتري منا كل دقيقة ظل، سواء كانت حقيقية أو اصطناعية. ولإضافة بُعد إنساني، يمكننا إطلاق حملة “الحق في الظل للجميع”.
- تغليف الصفير الوطني:
تخيلوا معي: الرياح تعبر جبالنا بلا مقابل، تهبّ بكل حرية، تملأ الآذان بصفيرها العابر، ولا أحد يفكر في استغلال هذه الثروة. مشروعي هنا بسيط: سأضع شبكة عملاقة تجمع الصفير، وأقوم بتصفيفه وتحسينه في استوديوهات متطورة، ثم أعبئه في أقراص مضغوطة تُباع كـ”موسيقى وطنية طبيعية”. سأطلب من الحكومة شراء كل نسخة، حتى لو كان الصوت في الخلفية مجرد “هواء مكيف”. ومن يدري، قد يُعتمد هذا الصفير كنشيد وطني في المستقبل.
- إعادة تدوير الشخير:
الشخير هو مورد غير تقليدي، لكنني أراه فرصة. سأطور أجهزة تلتقط شخير المواطنين أثناء نومهم وتحوله إلى ترددات موسيقية تُباع كألحان مهدئة. يمكننا حتى إنشاء فرقة وطنية من الشخير، تقدم عروضا حية على مسارح عالمية. سنطلق حملة وطنية تشجع المواطنين على تناول “أطعمة مولدة للشخير”، وسنروج لفكرة أن الشخير هو “صوت النوم السعيد”.
…
هذه المشاريع ليست مجرد أفكار استثمارية، بل دعوة مفتوحة لتحويل كل شيء حولنا إلى أرباح مضمونة. في زمن تُباع فيه المياه المحلاة بضمانات حكومية، لا شيء يمنعنا من بيع الهواء، والغيوم، وتشغيل النمل، وتعليب ضوء القمر، وحتى الظلال.
المخاطرة الوحيدة التي نخوضها اليوم هي ألا نجد وقتا كافيا لحساب الأرباح!