محمد جليد: موت الكاتب: الغياب والتغييب!
توالى علينا، في الأسابيع القليلة الماضية، رحيل الكتاب، كان آخرهم عميد الأدب المغربي عباس الجراري والباحث بوسلهام الكط والقاص المبدع محمد إبراهيم بوعلو. هذا الأخير، الذي توفي الأسبوع الماضي، هو أحد مؤسسي فن السرد القصير في المغرب، إلى جانب كل من المرحومين إدريس الخوري ومحمد زفزاف، وكذا أحمد بوزفور وعبد الحميد الغرباوي وأبو يوسف طه ومحمد صوف وآخرين- أطال الله في عمرهم جميعا. ويمثل رحيل الواردة أسماؤهم أعلاه خسارة فادحة للأدب عموما، وللثقافة الإبداعية المغربية والعربية عموما.
في الواقع، إن رحيل أي كاتب- كيفما كانت مساهمته قيد حياته- وحتى في حال توقفه عن الكتابة، رحيلا مزدوجا. ففي هذا الزمن الرديء الذي تنبعث منه نتانة الفساد وتجرفه التفاهة إلى الحضيض، يصير موت الكاتب مزدوجا، إن لم نقل إن موته يتضاعف إلى ما لا نهاية، إذ ‘يكثر فيه الموت’، كما قال العرب القدامى. إنه موت مركب ومتشعب. فهو غياب وتغييب في الآن ذاته. لا يموت الكاتب فحسب بانسلال الروح من جسده إلى الأبدية، بل يموت بسبب التجاهل والإهمال والنسيان والنكران والجحود، الخ. والأنكى من ذلك أن بعض الكتاب يموتون بسبب هذا، بعد تقاعدهم على الخصوص، لدرجة أن البعض يحسبون على الأموات- في ظن ‘الأحياء’ طبعا- وهم ما يزالون على قيد الحياة.
في البلدان الأخرى التي تقدر الأدب والفكر حق قدرهما، تقام التماثيل والنصب للأدباء والمفكرين، وتحمل المدارس والجامعات والكليات والمعاهد وباقي المؤسسات الرسمية والشوارع الكبرى أسماءهم، وتتأسس الجوائز والمكافآت لتكريمهم وتخليد إبداعاتهم وعطاءاتهم، الخ.
بخلاف ذلك في هذه البلاد السعيدة ثقافيا، تحول تغييب الكاتب بعد غيابه إلى ظاهرة مثيرة. يصير الكاتب في طي النسيان، ما إن يوارى جثمانه الثرى، ويصير إرثه مثل خبايا المجهول، أثرا بعد عين في أحسن الأحوال. وهذا ما أشار إليه الأديب العربي بنجلون، في تدوينة على الفايسبوك قبل أيام، حين قال إن مفكرا كبيرا من طينة الراحل محمد عابد الجابري لا ينبغي أن ينساه الإعلام- وحتى نساء الأدب والفكر ورجالهما، لأن أعماله الفكرية الرفيعة، بتعبيره، “أحدثت رجة في الفكر الحديث.”
لا يرحل الكاتب عن دنيانا جسديا فقط، بل يرحل فكريا وأدبيا ورمزيا أيضا. كان العراقيون يدفنون أغراض الميت معه في قبره. الواقع هنا أسوأ من ذلك بكثير، إذ تكفن أعمال الكاتب، هي الأخرى، بكفن السهو والتقصير والتغافل. يزول كل شيء من الفكر والحافظة. سرعان ما تغيب أعماله عن الذاكرة، ويهجرها الإعلام، وينبذها الفضاء المدرسي والأكاديمي، ويطرحها أصدقاء الراحل الأوفياء، إن لم يعرّضوا بها ويحتقروها ويتفهوها. حتى السلطة تنسى كتابها المقربين، أولئك الذين قدموا لها أغلى المنافع وأعظم الخدمات وأنفس النظريات والخبرات، تتركهم يضمحلون في دهاليز الغفلة، حتى يتلاشون نهائيا في سراديب الغياب.
هكذا، يبدو أن موت الكاتب الجسدي والرمزي يقع من الجميع موقع الإجماع. لا خلاف فيه، سواء لدى النخبة أو الطبقة الشعبية. حتى تلك المحاولات المحتشمة التي يجترحها بعض الكتاب، على حسابهم الشخصي أحيانا أو بتعاون مع بعض المؤسسات الغيورة أحيانا أخرى، لا تجدي نفعا في ما ينبغي أن يحظى به الراحلون من تكريم وتكريس. تستلزم الضرورة من المرء هنا أن يعبر عن الشكر والتقدير امتنانا وعرفانا لهم على هذا الجهد الجبار في الحفاظ على ذكرى الراحلين، وإن لم تفلح مبادراتهم في بعثهم من رماد النسيان وتخليصهم من براثن الجحود إلا مناسباتيا.
وإذا كان كثيرون يتشدقون اليوم بالكلام عن فكرة الالتزام- أو المقاومة- في الإبداع والكتابة، فالأولى أن يترجم هذا المبدأ فعليا في الوفاء للرواد والآباء المؤسسين، حتى لا يطوي النسيان ذكراهم، ويظل إرثهم حاضرا بين الأحياء. والأحرى ألا تبقى المقاومة كلاما نظريا عاما، وأن تتحول إلى مواجهة شاملة وجذرية مع كل تيارات الغياب والتغييب الجارفة، وفي مقدمتها سيل التفاهة الهادر الذي يكسح تراكمات هؤلاء الرواد والآباء، بأبعادها وتأثيراتها المختلفة والعميقة وامتداداتها الزمنية الطويلة، فيعدمها كأنها لم توجد أبدا.