محمد التيمومي.. أسطورة مغربية سحرت العالم

يكاد كل من عايش سنوات وجود محمد التيمومي فوق ملاعب كرة القدم، أن يجزم أنه أفضل ما أنجبه المغرب من اللاعبين الأفذاذ. ومن شاهد يسراه الساحرة، وأناقته في استقبال الكرة ومداعبتها وتمريرها، وتصويبها إلى شباك الخصوم ببراعة، يمكن أن يصنفه دون خجل واحدا من أعظم من حملوا رقم 10 في تاريخ كرة القدم العالمية.
“حمودة” كان مبدعا في كل ما يقوم به داخل الملعب، حتى في الأشياء التي تبدو عند اللاعبين الآخرين غاية في البساطة. شخصيته الهادئة فوق الميدان تُظهره كعازف قيتار يوزع نغماته على كل من يتفرج عليه من المدرجات ومن شاشات التلفاز. يقول عنه المبدع الروائي المغربي عبد الكريم جويطي: ” حين تراه وهو متأثر، أو متألم، أو شارد، حين ترى الدمع يتلألأ في عينيه وجبهته تتغضن وتقاسيم وجهه الأخرى تتداعى من الوجع أمام شهادة في حقه أو استحضار ذكرى أو مشهد، حين ترى ذلك الوجه السمح الهادئ غير القادر على أن يحتد ويحقد ويلحق الأذى ولو بذبابة، وجه من امتلك صفاء رؤية الحياة كشيء مليء بالخذلان والفقد والخسارات المتوالية، تتعجب من النار التي كانت تضطرم داخل هذا الرجل وهو يملأ الملاعب الوطنية والدولية بحضوره اللافت. تتعجب أكثر كيف كان يسمح لنفسه بأن ينافس ويتحدى! كيف كان قلب هذا الزاهد الكبير يطاوعه ويدفعه للبحث الشرس عن الانتصار ورؤية الانكسار والأسى في عيون المنهزمين؟ كيف كان هذا الملاك يتحمل رؤية الألم الذي سببه، هو وزملاؤه للآخرين؟”.
فوق تراب اتواركة
في صباح يوم 25 غشت من سنة 1960، وُلد محمد التيمومي في حي اتواركة المجاور للقصر الملكي بالعاصمة الرباط، وسط عائلة بسيطة متعددة الأفراد . وبزغ نوره الكروي مبكرًا في أزقة الحي، حيث كان يحاكي كبار اللاعبين بحركاته ولمساته. ومنذ سن السادسة استطاع أن يلج القصر الملكي ويلعب الكرة مع الملك محمد السادس (ولي العهد آنذاك)، رفقة أبناء الحي، كل عشية يوم جمعة.
وشيئًا فشيئًا، اقتنع محيطه بأن موهبته لا يجب أن تبقى حبيسة “الحومة”، وأن “الجوهرة السمراء” لا بد أن تصقل، ليلتحق بذلك إلى “صغار” اتحاد تواركة. تدرج في الفئات ليبلغ محطة الفريق الأول سريعاً عن سن الـ17، بضغط من الجمهور “التواركي” الذي أصر آنذاك على ضرورة إلحاقه بالكبار نظير المستويات التي كان يقدمها مع الفئات السنية، كل ذلك تحت أنظار غي كليزو، مدرب المنتخب المغربي والجيش الملكي حينها.
ووسط تشكيلة اتحاد تواركة، بدأت ملامح النجومية تلوح في الأفق، حيث كان التيمومي يبدع في كل مباراة، ويُدهش من يتابعه بلمساته الرائعة وتمريراته الدقيقة، مما جعل ارتداءه للقميص رقم 10 أمرًا طبيعيًا، فهو الرقم الذي يليق بمن يصنع الفارق في كل لقاء، ويعزف سيمفونية كروية برجل يسرى استثنائية.
قضى التيمومي سبع سنوات حافلة مع اتحاد تواركة، تلقى خلالها دعمًا غير مشروط من أبناء حيّه الذين آمنوا بقدراته الفذة، وساهموا في منحه الثقة لمواصلة التألق. هذا المسار الإبداعي قاده في نهاية المطاف إلى الانضمام إلى فريق الجيش الملكي، الذي كان آنذاك يضم صفوة لاعبي كرة القدم في البلاد.
اللعب بألوان الفريق العسكري
فترة وجوده في الفئات السنية للفريق التوركي، وتألقه في مبارياته كموهبة فذة وصانع ألعاب أنيق، لفتت أنظار حسن أقصبي مدرب المنتخب الوطني المغربي للفتيان، فكان استدعاؤه ومشاركته في دوري “لاكروا” في فرنسا بمثابة المنعرج الذي فرض تخليه عن الدراسة للتفرغ للتنقلات مع المنتخب خارج البلاد.
في تلك الفترة، قرر كليزو أن الوقت قد حان لاستقدام “حمودة” إلى الجيش، بعد متابعته عن بعد لسنوات متتالية مع اتحاد تواركة واستدعائه إلى المنتخب الأول سنة 1979.. وهو في عمر 19 سنة، وجد التيمومي نفسه في الفريق “الملكي”، إلى جانب خليفة، وواديش، ومولاي الطاهر، ودحان… والسؤال كان كيف لهذا الفتى أن يثبت مكانته بوجود هؤلاء؟ فكان الجواب أن التيمومي دخل رسمياً في أول مباراة له مع الجيش آنذاك، وأعطى إشارات أن كرة القدم المغربية ستعرف نجما لم تنجب ملاعبها موهبة فذة مثل “حمودة” المبدع. ليبدأ رحلة المجد والتألق مع الفريق العسكري، الذي كان يهمين في تلك الفترة محليا وقاريا، وظل التيمومي رفقة الجيش لأربعة مواسم، ذاع صيته فيها بعدما توج معه بلقب البطولة الوطنية مرة واحدة وكأس العرش ثلاث مرات، وختمها بلقب دوري أبطال أفريقيا سنة 1985.
1985.. عام الفرح والحزن
مسار محمد التيمومي في كرة القدم كان مليئا باللحظات الجميلة للتألق ونيل الإشادة وثناء المدربين والمسيرين والجمهور، مع فريقه الام اتحاد توارݣة، كما مع الجيش الملكي والفريق الوطني. كما تخللته مصاعب وذكريات حزينة وفقا لقواعد الرياضة الخاضعة لمنطق الخسارة والهزيمة. لكن أن يجمتع أفضل إنجاز للاعب كرة قدم، مع أسوأ ذكرى في حياته الكروية في نفس السنة، فذلك شيء ناذر لا يحدث إلا مع لاعب استثنائي مثل “حمودة” الأسطوري.
فتألقه مع الجيش الملكي محليا وقاريا في سنة 1985، التي عرفت تتويجه كأول ناد مغربي بكأس إفريقيا للأندية البطلة، مكنته من نيل أحقية الفوز بالكرة الذهبية الإفريقية كثاني مغربي يفوز بها بعد الهداف احمد فرس الذي نالها نظير مشاركته التاريخية مع المنتخب المغربي في كأس أمم إفريقيا بإثيوبيا 1976.
نفس سنة فوز التيمومي بالكرة الذهبية الإفريقية، جاءت له بذكرى أليمة تتعلق بالإعتداء الآثم المتعمد الذي تعرض له من طرف مدافع نادي الزمالك المصري جمال عبد الله، في مباراة برسم ربع نهائي كأس إفريقيا للاندية البطلة بالرباط، والذي تسبب له في كسر مزدوج في الكاحل وهو في قمة عطاءاته الكروية الكبيرة.. النتيجة كانت ان “حمودة” ذهب لراحة إجبارية استمرت شهورا طويلة لم يخرج منها إلا برغبة الملك الراحل الحسن الثاني الذي أعطى تعليماته للجامعة من أجل التسريع باستشفائه على أمل مشاركته مع المنتخب الوطني الذي كان يستعد لمونديال المكسيك 1986.
احتراف غير موفق
بعدما خطف التيمومي الأضواء في مونديال المكسيك إسوة بزملائه في المشاركة التاريخية للمنتخب الوطني، أصبحت العديد من الأندية الأوربية تترصده وتسعى لضمه، فحصل آنذاك على عروض من فرنسا وبلجيكا ، لكنه فضل الانتقال إلى البطولة الإسبانية، حيث جاور فريق مورسيا الذي قضى معه موسما واحدا.
لم يندمج محمد التيمومي في أجواء كروية غريبة عنه، فطلب الرحيل ، ليعرض عليه فريق لوكرين البلجيكي الانتقال إليه، حيث قضى معه موسمين حقق فيهما بعض النجاح وكثيرا من الصعوبات، ليقرر بعدها أيقونة المنتخب المغربي شد الرحال صوب الخليج العربي، في مغامرة جديدة ، بتوقيعه رفقة السويق العماني الذي قضى رفقته 4 سنوات، قبل أن يقرر اللاعب إنهاء مغامرة الاحتراف خارج المغرب، والعودة إلى من حيث انطلق، ليكون بالقرب من دفئ العائلة والأحباب.
العودة إلى الأصل
أنهى محمد التيمومي مسيرته الكروية رفقة الجيش الملكي، الذي خاض معه موسم 1994-1995، قبل أن يقرر الاعتزال، تاركا ورائه مسارا حافلا بالإنجازات، رابطا علاقات إنسانية مع العديد من الرياضيين لسنوات طويلة، فرغم أن التمومي كان دوما إنسانا كتوما لا يتحدث إلا قليلا، إلا أن المقربين منه يؤكدون أنه رجل مرح مع معارفه مقابل ذلك يبني سياجا حول نفسه مع الغرباء.
التيمومي أسطورة المنتخب المغربي والجيش الملكي، ظل ينأى بنفسه من تراجع نتائج الفريق العسكري، وحتى وأن مسؤولي الفريق حاولوا إقحامه أكثر من مرة من أجل التواجد في مراكز المسؤولية داخل الإدارة التقنية، إلا أنه يحاول دوما البقاء في الهامش، رغم أنه لا يبخل على الشباب الصاعد بالنصائح ، خاصة وأنه يعتز بانتمائه لفريق الجيش الملكي الذي كان سببا رئيسيا من وراء اكتسابه كل الشهرة التي نالها.
مخلفات إصابات بليغة
قبل سنوات، وعلى إثر مراودة آلام الإصابات التي تعرض لها “المايسترو” محمد التيمومي في مساره الكروي، تردى وضعه الصحي، فكابد معاناته في صمت ودون شكوى لأحد، إلى أن شاءت الصدفة أن يتواجد وهو يتكئ على عكازين في تدشين المركز الوطني لكرة القدم بالمعمورة، فلفت انتباه الملك محمد السادس الذي أعطى تعليماته على الفور بالتكفل بعلاج لاعب أيقونة دخل قلوب المغاربة بجون استئذان.
يقول عن ذلك صاحب رواية “المغاربة” المبدع عبد الكريم الجويطي: “من ألم لألم ومن عملية جراحية لأخرى، يجرجر التيمومي محن ركبته ويجرجر معها ثقل ماض مجيد جعل منه رمزا وطنيا أحبه المغاربة بدون استثناء: من منا لا يحب التيمومي!؟ وحين يستحضرونه، لا يستحضرون فنياته فقط وإنما يستحضرون معها طيبته واحترامه للخصوم ونبله في الفعل والقول”.