story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

محاكم التفتيش

ص ص

لن نختلف إذا زعمت أن المسافة الحقيقية التي تفصلنا عن الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق، تفوق تلك المسافة الجغرافية التي تقدر ببضع عشرة من الكيلومترات، وتقاس في الحقيقة بالعقود والقرون، في مقياس التقدم الحضاري وقيمة الانسان.
لا أرمي من هذه المقدمة المتشائمة التذكير بالفوارق الاقتصادية والتنموية والعلمية التي تفصلنا عن جارتنا أوربا، بل أقصد تلك المسافة الطويلة التي تبعدنا عن هذا التقدير والاعتبار الذي تحظى به حرية الانسان في الجانب الآخر من المضيق الغربي للمتوسط.
لدينا كامل الحق في جلد الذات والغوص في هذا الظلام الدامس، ونحن نعيش موجة جديدة من الاعتقالات والمحاكمات والإدانات، لا لشيء إلا لأن هذا قال وتلك كتبت والآخر نشر، أي لمجرد تعبيرات لم يكن من الضروري تحويلها إلى مطية لترويع العائلات والدخول في متاهات حقوقية جديدة.
انظروا إلى هذا الطابور الجديد الذي يصطف أمامنا للمتابعين والمستجوبين في قضايا تعبير، منهم صحافيون ومدوّنون ونشطاء، وحتى قاض كل ذنبه أنه استجاب بصفته رئيس جمعية، لدعوة من جمعية محامين ينتمون إلي حزب سياسي، لحضور ندوة تناقش موضوعا من صميم اختصاص جمعيته…
سوف أجازف بتقدير المسافة الحقيقية التي تفصلنا عن فردوسنا المفقود، أي الأندلس الذي يمثل أقرب نقطة إلينا من أوربا، بأكثر من ثمانية قرون، وهي المسافة التي تفصلنا زمنيا عن حملة محاكم التفتيش التي أطلقها الحكام المسيحيون لجوارنا الشمالي، للتنقيب في النوايا والتلصص على القلوب بزعم تطهير البلاد من زائفي الولاء وملتبسي العقيدة.
تريدون دليلا على ذلك؟ تعالوا ننظر إلى وجهنا في المرآة عبر هذه القضية:
في أواسط شتنبر من العام 2007، وبمناسبة زيارة رسمية قام بها الملك الإسباني السابق، خوان كارلوس، إلى مدينة خيرونا الواقعة في منطقة كطالونيا، قام ناشطان انفصاليان بعرض صورة كبيرة لكل من الملك وزوجته خلال تظاهرة احتجاجية ضد زيارة الملك في إحدى الساحات، وأضرما فيها النار أمام الجمهور، وهو ما اعتبرته السلطات الإسبانية إساءة للملك وتحريضاز عليه، وأحالت المتهمين على القضاء قصد محاكمتهما.
توبع الناشطان أمام القضاء وفقا لفصول من القانون الجنائي، باعتبار ما قاما به إساءة وتحريضا على العنف تجاه الزوج الملكي، وتمت إدانتهما في حكم قضى ب15 شهرا حبسا، أو غرامة مالية قدرها 2700 أورو لكل منهما.
أصبح الحكم نهائيا ونفذه المعنيان بالأمر في بداية العام 2009، حيث قاما بدفع الغرامة بدلا من قضاء العقوبة السجنية، وهي الإمكانية التي يتيحها القانون الجنائي الإسباني في حال كان المدان بدون سوابق…
لجأ الناشطان السياسيان بعد ذلك إلى المحكمة الدستورية للطعن في الحكم لكونه مس بحقوقهما في التعبير الحر، لكن طعنهما هذا رُفض سنة 2015، لينقلا معركتهما القانونية إلى المحكمة الأوربية لحقوق الانسان، والتي أصدرت حكما بات وثيقة مرجعية منذ منتصف مارس 2018.
ماذا قالت المحكمة الأوربية لحقوق الانسان في واقعة استنفدت جميع مراحل التقاضي والطعن بما في ذلك عرضها على قضاة المحكمة الدستورية، مع توفر كامل ضمانات المحاكمة العادلة وعدم حدوث أي اعتقال أو مس بحرية المتابعين…؟
اعتبرت المحكمة في قرارها أن الضمانات المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، لا تشمل حرية تداول الأخبار والآراء التي لا تزعج فقط، بل تغطي حتى تلك التي تصدم أو تُقلق، “وهذا ما تفترضه التعددية والتسامح وروح الانفتاح، التي بدونها لا وجود لمجتمع ديمقراطي”.
وشددت المحكمة على أن الاستثناءات التي تتيحها الضمانات الدولية لتقييد بعض الحريات، ينبغي أن تكون “مقنعة”.
وبعد تأصيلها النظري والقانوني لحكمها، اعتبرت المحكمة أن ما قام به الناشطان السياسيان الكطلانيان، يندرج ضمن “النقد السياسي”، وأنهما لم يقدمها على فعل حرق صورة الزوج الملكي إلا بالنظر إلى وظيفتهما السياسية، وألا علاقة للأمر بشخصهما، واستندت المحكمة في تقديرها هذا إلى ما قالت إنه تحليل للسياق الذي تمت فيه الواقعة، أي سياق احتجاج سياسي، ونقاش حول موضوع مرتبط بالصالح العام، “وكل ذلك يؤدي إلى خلاصة مفادها أن الأمر لا يتعلق بهجوم على شخص الملك أو بسعي إلى أهانته أو تحقيره…”.
المحكمة اعتبرت العناصر التي استند عليها القضاء الاسباني في قرار الإدانة، مثل استعمال صورة كبيرة وعرضها مقلوبة بجعل رأس الشخصيتين نحو الأسفل، ثم إضرام النار فيها، بمثابة محاولات لإثارة الانتباه إلى التحرك الاحتجاجي، وأنه لا ينطوي على أي تحريض.
وفي استجابة منها لمطالب الطاعنين، حكمت المحكمة الأوربية على الدولة الإسبانية بإرجاع مبلغ الغرامة التي دفعها كل منهما، أي 2700 أورو، مع تعويض إضافي قيمته 9 آلاف أورو، إلى جانب كل ما تحملاه من صائر بمناسبة هذا الملف، مع غرامة تهديدية في حال تأخر الدولة الإسبانية في تنفيذ الحكم.
هل نواصل ونقوم بالمقارنة بين هذه الواقعة وما نعيشه حاليا من جرجرة لعباد الله إلى المخافر والمحاكم بطلب من رئيس الحكومة أو وزيره في العدل؟
هل تستقيم المقارنة أصلا في غياب الآليات الوطنية بدءا من ضمانات المحاكمة العادلة ووسائل الطعن، خاصة الطعن في دستورية القوانين، وغياب الآليات الإقليمية التي يمكن اللجوء إليها؟
هل تبدو الآن حقيقة المسافة الفاصلة بين ضفتي مضيق جبل طارق؟
أظنني كنت متفائلا للغاية حين حصرتها في 8 قرون…