مجتمع الخوف
هل تحول مجتمعنا إلى مجتمع خوف؟
هل تطور مستوى فقدان الثقة إلى حالة مرضية رُهابية تتمدد وتنتشر بين المواطنين؟
ما دفعني إلى طرح هذين السؤالين هو المشاهدات اليومية والقراءات المتأنية لواقع الحال والتغيرات المتتالية التي يعيشها المجتمع المغربي. لقد بدأت تمظهرات مجتمع الخوف إثر الردة السياسية التي شهدناها عقب ما سمي بالحراك العربي، والتي أعادت رسم الخريطة السياسية والنخب المتحكمة في مراكز القرار وفق مقاربة جديدة تجُبُّ ما قبلها.
فبعدما كان التدافع السياسي متاحا وفق خطوط حمراء معينة توافق الجميع حولها، صار التدافع غير ممكن، والنظرة أحادية للواقع السياسي، والتضييق أكبر، وحلَّ الفرض محل التفاهم، والقمع محل الاستماع، وساد خطاب التهديد الضمني وتوسعت الخطوط الحمراء لتصير مساحات أكثر انتشارا، وتمكن البعض من سلطة رسمها وتأويلها، والأنكى من كل هذا المحاسبة على أساسها.
إثر كل هذا، شاءت الأقدار أن تخدم هذا التوجه في فترة الجائحة، فخضعت الأصوات المقاومة، وتم تجريف بقايا الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية المنخورة بالوصوليين، وفرضت النخب الانتهازية توجهها مستعلمة أحط الأساليب السياسية، ومعتمدة على الزواج الكاثوليكي بين السلطة والمال، وتقوت هذه الرابطة حد التماهي والتشريع. النتيجة الحتمية لهذا الوضع هو الصمت والحديث من تحت الأكمام، وابتلاع الأغلبية لسانها، وخروج النخب من مؤسسات الوساطة والتمثيلية، وترك الساحة للتافهين وعديمي الخبرة ليخوضوا في الشأن العام، وتجييش الذباب الإلكتروني في مواقع التواصل، وانحطاط مستوى النقاش العام، وتقديم الهوامش على الأولويات في السياسات العمومية…
صار المواطن خائفا في كل أفعاله. عندما يذهب إلى عمله يخاف من رب العمل، والمقاول يخاف من سلطة المراقبة الضريبية وموزعي الرخص الإدارية، والصحفي يضع رقابة ذاتية، والمسؤول لا يقوم بتفعيل اختصاصاته خوفا على منصبه وتحسبا لمحاسبة جائرة من الأعلى منه درجة، وهكذا دواليك حتى صرنا نخاف من سلطة البقال والجزار والخضار على قفة معيشتنا اليومية. صرنا نعيش انكسارا داخليا يُنْذر باقتراب وقوع الكارثة.
إن ما يقع في قطاع التعليم العمومي المعلق منذ أكثر من شهرين شكل من أشكال الكارثة التي نحذر من انفجارها. فقرار السلطة الوصية فرض مرسوم النظام الأساسي على الأساتذة الذين يشكلون القاعدة في القطاع، والإمعان في إهانتهم وتقوية مواقع المراقبة والتحفيز التحريضي لممثلي سلطة المراقبة وتوسيع المهام والواجبات شكل مما سردنا عن آليات الاشتغال داخل الإدارة العمومية.
انطلق هذا الفعل من تبخيس لقدرات الأساتذة وتحميلهم مسؤولية فشل منظومة تعليمية راكمت سنوات من الخطط الإصلاحية التي تعاقب عليها نفس المخططون المستريحون داخل مكاتبهم المكيفة، والبعيدون عن واقع المدرسة، بل أكثر من ذلك، منفصلون عن واقع مجتمعي مختلف من حيث القيم والأفكار والمبادئ عن عالم الطبقات الغنية والمجتمع المخملي.
لا أطلق حكما دونما دليل، بل بلغني من مصادر متعددة، وسمعت بشكل مباشر تقييم المخطِّط الفعلي لمبادرة النظام الأساسي وبرنامج المدرسة الرائدة بناء على دراسته لعينة من الأساتذة لفائدة مؤسسة مالية دولية، كلاما جارحا ومنقصا من قيمة الأستاذ المغربي، علما أن الدارس لم يكن يوما داخل أسوار المدرسة الوطنية تلميذا أو طالبا أو حتى مدرسا.
يجب أن يعرف الجميع أن ردة فعل الخائف مهما طال جُبْنُها، تتحول إلى غضب قادر على إحراق الأخضر واليابس إذا ما وجدت المحفز والمؤطر. ردة الفعل هاته تختزن سنوات الغضب والرغبة في الانتقام من الإهانة والإصرار على استرجاع الكرامة.
ما يقع بالون اختبار لتجربة غياب الوسائط، وغضب الشارع التعليمي لم يعد يقبل بالنقابات التي فقدت المصداقية، ولا وعود الوزارات وعهودها المغلظة بمحاضر التوقيع، ولا دعوات منْ أجهز على الثقة للوثوق بمؤسساته الرسمية قادرة على طمأنته. الذاكرة الجمعية لا تنسى، والعاقل مهما بدا خائفا، فإن مستوى وعيه لم ينطفئ بل يواريه فقط، فحذار من مجتمع يكسر حاجز الخوف.