مثقف بلا دولة.. “طوطولوجيا” وقابلية للتوظيف

عندما يكون المثقف بلا دولة وبلا وطن، بمعنى دقيق: عندما يكون فاقدا لإشكالية نظرية وعملية فيهما؛ عندما يكون كذلك يصبح قابلا لتأدية الوظيف والخدمات لدول أخرى أجنبية، ضمن حدوده الفكرية والإيديولوجية أو خارجها، بوعي منه أو بدون وعي. من حاجته وضعفه النفسي أو المادي يُستدرَج إيديولوجيا ليتخذ له مقعدا في اختيارات وأجهزة لا علم له بها، ويا ليتها كانت اختيارات وأجهزة دولته! هكذا وقع لكثيرين، من حيث ظنوا أنهم يعارضون دولهم، أو ينتقدون جماعة سياسية بعينها؛ سقطوا في نهاية المطاف في حبال “المخابرات الثقافية” لدول أخرى!
لا يستمد المثقف قيمته من كمّ الكتب التي يحفظها أو يكتبها أو يعيد صياغتها قولا أو كتابة، وإنما من قدرته على التموقع السديد سياسيا وثقافيا، انطلاقا من مجتمعه قبل أن يتبنى مواقف “بعيدة”. كيف للمثقف الغائب عن مجتمعه ودولته أن يرى بسداد قضايا الخارج، تحت أي مسمى كانت هذه القضايا؟! كيف له أن يرى النور خارج الحدود وقد أعماه الظلام داخلها؟! هذا مثقف فاقد للإشكالية أو لعله يعيش على وهم إشكالية زائفة ومثالية، قابل للتوظيف خارج حدود بلده.
قد يقول قائل: “إن ثقافة المثقف لا حدود لها، وهو إنساني المنزع كوني المعرفة”. وهذا كلام مقبول من الناحية الإنسانية والغائية البعيدة، إلا أنه لا يعفي صاحبه من إمكانية الاندراج في سلطة خارجية لا يعيها، قد تكون ضد خصوصية بلده في السياسة والثقافة، وعلى النقيض من الطريق التاريخي إلى الغاية التي لا يبرح يُمضمِض بها فمَه ولسانَه. فكثيرة هي “المقولات الوجودية” التي عبرت عن اختراق ثقافي أمريكي لفرنسا، كما اخترقت “مقولات التنوير المفترى عليه” المجتمعات العربية والإسلامية. “الإيديولوجيا الإنسانوية” بمختلف “فلسفاتها” و”كلامها” قابلة للتوظيف في شتى المناحي، ونادرا ما يسلم مثقفوها منه.
على النقيض من ذلك، يمكن الانتباه إلى مثقف من طينة خاصة. لا ينطلق من “المقولة الإيديولوجية”، وإنما من “التحليل الملموس”. يحدد مجال المصالح وتناقضاته تحديدا ملموسا موضوعيا قبل أن يدلي بموقف في القضايا المطروحة، وقبل ذلك يكون هذا المثقف قد خاض عمار رحلة نظرية وعلمية شاقة ليستقر على منهج في النظر والتحليل؛ ليس كل تحليل، بل “التحليل الملموس للواقع الملموس”. هذا المثقف لا تنطلي عليه “الحيلة”، يعرف الضروري من غيره، يحدد سقفه بنفسه، ويعرف إلى أي حد يكون النقد “تقدميا في التاريخ” وإلى أي حد يمكن أن يكون “رجعيا”. لا يهاب كافة الفئات والطبقات والكتل الاجتماعية، يعرف واقعها الطبقي والإيديولوجي والسياسي جميعا، ثم يتخذ موقعا حيث يتقدم التاريخ. وعندما يتخذ موقعا حيث يتقدم التاريخ يكون قد عرف الاستراتيجية، أما التكتيك فله فيه اختيار، إما إلى هؤلاء وإما إلى هؤلاء في إطار منحى واحد في التاريخ.
هذه عملية داخلية، يقوم بها المثقف في مجتمعه الذي هو أقرب إليه من كل مجتمع، في دولته التي هي أقرب إليه من كل دولة. وعندما تغيب هذه العملية يكون المثقف معرضا للاستهداف والاستدراج الإيديولوجي من حيث لا يدري ذلك، يردد كلاما من صميم “قلبه” لكنه صناعة بعيدة ويا ليتها كانت قريبة! وقد وصل الاستدراج الإيديولوجي بكثيرين حدّ السكر، فتراهم غائبين “مطلقا” عن قضايا مجتمعاتهم، متحدثين في “التنوير” و”الخلافة” و”الإنسانية” الخ. لا يعرفون عن طبقات مجامعاتهم أدنى معلومة، لا يهتمون لا بلسانه ولا بإناسته ولا بذهنيته ولا بسوسيولوجيته ولا بتاريخه ولا بقضاياه ومصالحه، كل حديثهم “إعادة تدوير للكلام”، “طوطولوجيا” عابرة للحدود والقارات.
هذا النوع من المثقفين ليس وليد نفسه، وإنما هو وليد “ما بعد سقوط جدار برلين”. نتحدث هنا عن المثقف الذي أفرزته الأحادية القطبية في نموذجين: “نقدي” أو “محافظ”. وكلاهما محافظان على مصلحة بعينها في العالم، هي مصلحة “الإمبريالية الجديدة” ونموذجها في الاختراق السياسي والثقافي وهيكلة المشهد في الدول والمجتمعات، تحت مختلف الأقنعة ومهما كانت “متناقضة” إيديولوجيا وكلاميا. لقد ظهر هذا “المثقف” إلى الوجود بعد نموذجين سابقين هما:
-مثقف التحرر الوطني: وهذا كان تقدمي الممارسة والحركة التاريخية رغم “سلفيته”، بل استطاع أن يحول “سلفيته” إلى فعل تاريخي تقدمي. نتحدث هنا عن أمثال علال الفاسي وعبد الحميد بن باديس وعبد العزيز الثعالبي وجمال الدين الأفغاني الخ. كان الهم الوحيد لهذا المثقف هو الاستقلال، وقد نجح في إخضاع إيديولوجيته بالتأويل المطلوب التاريخ. عبر هذا المثقف عن ظهور فئات اجتماعية جديدة، تنزع إلى التقدم بقدر ما تنزع إلى الاحتواء ب”السلف” في مواجهة الاستعمار. وإذا كان في ممارسته من عيب فهو البون الشاسع بين ممارسته ونظريته، الأمر الذي سيظهر جليا في ممارسته خلال مرحلة الاستقلال.
-مثقف استكمال التحرر: وهو المثقف الذي عرفته مرحلة الاستقلال بتجديده النظري والإيديولوجي والعملي، وقد انصب عمله على مشروع تحرير السياسة والاقتصاد والثقافة من استعمار جديد هو نتاج سيطرة النظام الاجتماعي الرأسمالي المركزي (الغربي) وتبعية باقي الرأسمالات (المكتملة وغير المكتملة إليه) وأنماط الإنتاج إليه. نتحدث هنا عن أمثال عزيز بلال وياسين الحافظ وأنور عبد الملك ومهدي عامل الخ. عبر هذا المثقف عن طموحات الفئات الاجتماعية الوسطى والدنيا، وهي الفئات التي لم ترَ من مصلحتها الموافقة على “الطريقة البورجوازية” لتدبير مرحلة الاستقلال. وإذا كان في ممارسته من عيب فهو عجزه عن تكييف نظريته من “الخصوصية الوطنية”، الأمر الذي نتج عنه بون شاسع بين وعيه المتقدم وممارسته المضطربة والتي سرعان ما طوِّقت وأفشلت (وفشلت أيضا).
وقد بدأت “الإمبريالية الجديدة” إعداد نموذجها الجديد من “المثقفين” قبل “سقوط جدار برلين” (1989) بسنوات (بل بعقود)، فنجحت إلى حد بعيد في تكوين جيل من “محترفي القراءة والكتابة” على أنقاض إشكاليتي “التحرر” و”استكمال التحرر”. وبدون سابق إنذار، وفجأة، أصبح “المثقف العربي” يتحدث عن “ديمقراطية عولمية” و”حقوق عولمية” و”تنوير عولمي” و”أمة عولمية”. أصبح بين ليلة وضحاها، يتحدث عن “النهضة” و”التنمية” و”الحريات الفردية” و”الحكامة” و”الحق في الجسد” الخ، وكأن الواقع العربي لم يعد يتحمل حديثا عن “التبعية” و”الاستعمار”، وعن إشكاليتي “التحرر” و”استكمال التحرر”! في هذا الشرط أصبح “اليسار” غير اليسار الذي كنا نعرف، وأصبحت بين ظهرانينا “سلفيات جديدة” تختلف في فكرها وممارستها عن السلفية الوطنية.
وقد واجهت الدول هذين النموذجين الجديدين، “يسار عولمي” و”سلفيات عولمية”، بالإضافة إلى “تنويريبن عولميين” و”ليبراليين عولميين”، بأسلوبين: احتواء القابلين للاحتواء وتوظيفهم في استراتيجيتها العامة، ومواجهة المستعصين مع اختلاف حدة المواجهة بين دولة وأخرى. وليس في الثقافة اليوم غير ثلاثة نماذج: “مثقفو الدولة” (كتاب الدولة)، “مثقفون في خدمة الدولة” (من مواقع مختلفة بما فيها موقع المعارضة)، “مثقفون في مواجهة الدولة” (في خدمة الاستهداف الخارجي وإن بغير وعي). أما “المثقف التحرري” ذو الوعي السديد، ذلك الذي ينخرط في “الفضاء العام” بوعيه، فهو قليل أو نادر.
في فترات تاريخية بعينها تصبح “خدمة الدولة” من مهام المثقف وواجباته، إلا أنها تكون “خدمة” واعية، تعرف حدودها في “الخدمة” كما تعرف حدودها في “النقد والاحتجاج”. إن المسافة التي يفرضها المثقف على وجوده، في علاقته بالدولة والمجتمع معا (علما أن “المجتمع في الدولة والدولة في المجتمع”)، تجعله أكثر قدرة على تحديد “المصلحة العامة” تحديدا واقعيا وملموسا. وعندما يحدد منحى هذه المصلحة يتخذ فيه موقعا، فلا يخشى في “موقعه التاريخي” لومة لائم. “مثقف بلا دولة” لا يعرف هذا النقاش، ولا ينطلق منه، فيهرع إلى ترديد كلام غير مفهوم في سياقه إلا “كإيديولوجيا قابلة للتوظيف الوطني” أو “إيديولوجيا قابلة للتوظيف الأجنبي”.