story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ما هي المرأة؟

ص ص

يقود التطور الذي تحققه الحضارة الإنسانية على مختلف المستويات، إلى طرح أسئلة تعيد البشرية إلى منطلقاتها ومراحلها البدائية، من قبيل التساؤل حول ماهية الانسان والغاية من الحياة وتعريف أو إعادة تعريف المفاهيم التي قد نعتقد للوهلة الأولى أنها حُسمت في العهود الغابرة من الوجود البشري.
من مداخل هذه العودة بالسؤال إلى الجذور والأصول، ما يرتبط بعلاقة الانسان بذاته وأدواره وكيفية تمثله لنفسه وللآخر، وهو ما قام به قبل سنة ونصف، فلم وثائقي هزّ أركان الصناعة المهيمنة على إنتاج الصورة الفنية والجمالية عبر السينما والفنون، من خلال طرحه سؤالا بسيطا على دعاة التدخل في الهوية الجنسية للإنسان: ما هي المرأة؟
يقوم الفلم بتعقب حركة بطله ومخرجه، مات والش، وهو يجري تحريات مكثفة حول الأفكار السائدة في المجتمع الأمريكي عن التحوّل الجنسي، محاولا دحضها وكشف ضعف أسسها الفكرية والعلمية.
يعتبر والش ناشطا معروفا في صفوف المسيحيين المحافظين في الولايات المتحدة الامريكية، وواحدا من مناهضي التحول الجنسي ونظرية النوع الاجتماعي، لكنه ومن خلال هذا الفلم، يتناول الموضوع بكثير من الهدوء، ويكتفي بطرح الأسئلة على “خصومه” الإيديولوجيين ليتركهم يواجهون مأزقهم، ما دفع بعضهم، من أطباء وأكاديميين وسياسيين، إلى إنهاء المقابلات ورفض مواصلة الحوار.
ويقدم الفلم من خلال تنقله إلى عمق القارة الإفريقية وطرح سؤال ماهية المرأة على بعض القبائل “البدائية”، مثالًا لثبات المفاهيم المتعلقة بالذات الإنسانية والجنس، وهو ثبات لم يأت بسبب الخلفية القبلية التي يمكن للبعض أن يصفها بالمتخلفة، بل بسبب بعدهم عن فلسفة ما بعد الحداثة التي يعيش الغرب في كنفها حاليا.
يستدرج والش طبيبة أطفال وواحدة من أكبر المختصين في عمليات التحوّل الجنسي، اسمها ميشيل فورسيي، لتسقط بسهولة في فخ سؤاله حول طريقة تحديد جنس الانسان.
تعتبر الطبيبة في البداية أن المواليد يحملون هوية جنسية تفرض عليهم من طرف المجتمع، وبالتالي من حقهم “تصحيحها” عندما يبدؤون في الوعي بـ”حقيقتهم”، ليسألها مات والش عن السبب الذي يجعل الدجاجة تعتبر أنثى، وما إن كان السبب هو وظيفها الطبيعية حين تبيض، أم الهوية الجنسية التي تفرض عليها؟ لتخرج الطبيبة عن طوعها وتستنكر المقارنة معتبرة أن الدجاجة لا تبكي ولا تنتحر.
موقف محرج مشابه وقع فيه أستاذ جامعي لعلم الاجتماع، حين رفض، أو عجز، عن تقديم تعريف محدد للمرأة، رغم كونه متخصص أكاديمي وقام بدراسات عديدة حول المرأة.
وأخطر ما لامسه فلم “ما هي المرأة”، هو وصول الدعاية المنادية بالتخلي عن كل القيم الإنسانية المرتبطة بالأسرة والعلاقات الجنسية واحترام حرمة الجسد بعدم التدخل في خصائصه الطبيعية؛ إلى استباحة أجساد الأطفال، بفرض نظريات تجيز، وتفرض في بعض الأحيان، التدخل لتغيير جنس الطفل بناء على تقديرات تعتبر أن شخصيته الحقيقية لا تتلاءم مع مظهره الفيزيولوجي. ويقدّم الفلم نموذجا حقيقيا لأب تعرّض للملاحقة القضائية، بسبب اعتراضه على قرار طبي بتغيير جنس ابنته، بدعوى عدم قيامه بما يلزم لمساعدة طفلته.
نترك أمريكا مات والش ورأسمالية ما بعد حداثتها، ونعرّج على مثال مناقض كليا، يتمثل في كوبا التي تعتبر من أبرز النماذج التي عرفت تطبيق الاختيار الاشتراكي في وظائف الدولة، خاصة في مجال السياسات الاجتماعية.
فقد سعت الثورة الكوبية إلى تحقيق مفهوم “الانسان الجديد” الذي أسس له نظريا الزعيم تشي غيفارا، وشمل ذلك جميع مناحي الحياة بما فيها الأسرة.
يقتضي هذا المفهوم مثلا تحرير “المرأة الجديدة” من قيود العمل المنزلي والفكر الأبوي، وبالتالي تحقيق المساواة في الولوج الى التعليم والشغل من أجل “خدمة الثورة”. فاستفادت المرأة الكوبية بشكل كبير من توجه السياسات الاجتماعية نحو تخليص الفرد من أية تبعية أسرية أو طبقية، حيث صدرت سنة 1975 مدونة جديدة للأسرة، تنص على ضمان جميع احتياجات النساء من تعليم وعناية في فترة الولادة وتحمل نفقات الأطفال…
أنتج هذا النموذج الكوبي حالة من الرخاء في فترة الثمانينيات، لكنه سرعان ما تحول إلى أزمة ابتداء من التسعينيات، حيث تراجعت قدرة الدولة على ضمان الخدمات السابقة، متأثرة بتحول ديمغرافي سبّبه انخفاض نسبة الخصوبة، وبالتالي ارتفعت نسبة الشيخوخة وارتفعت معها أعباء الدولة في مقابل انخفاض عدد القادرين على الإنتاج…
ساهم التحول الديمغرافي بقوة في تدهور الأوضاع وعجز السياسات الاجتماعية عن تلبية الحاجيات الأساسية للكوبيين، حيث دخلت البلاد منذ 2006 في نمو ديمغرافي سلبي، وتعمّق العجز الديمغرافي بارتفاع وتيرة هجرة الكوبيين إلى الخارج. وهو ما أنتج مشاكل جديدة تتمثل أساسا في مضاعفة الأعباء التي تحملتها النساء، وتفكك النسيج الأسري والاجتماعي، مما أنتج تفاوتات اجتماعية جديدة.
نعود إلى أمريكا، حيث أجرى مات والش في الجزء الأخير من فلمه الوثائقي، مقابلة مع كارل ترومان، عالم اللاهوت في كلية “غروف سيتي”، والذي يقدم شروحات تخدم أطروحة بطل الفلم، بل ويرشده إلى أقصر السبل من أجل العثور على جواب سؤاله المركزي: “ما المرأة؟”، حين دعاه إلى الزواج بامرأة لإدراك المعنى الذي يبحث عنه، وهو ما دفع والش إلى توجيه السؤال لزوجته التي ستجيب ببساطة: المرأة أنثى بشرية بالغة!
نهاية اختلفت آراء النقاد بخصوصها، بين من اعتبرها قوية الدلالة، من خلال إشارتها إلى أن جواب سؤال “ما هي المرأة” لا يتطلب في الحقيقة خدمات العلماء والباحثين المتخصصين بقدر ما يتطلب الانصات إلى الفطرة؛ بينما اعتبر البعض الآخر هذه النهاية سطحية ومفرطة في أسلوبها المباشر.
العبرة هنا في المثالين الأمريكي والكوبي في تعقيد موضوع الاختيارات المرتبطة بالأسرة، والتي تمس أولا المرأة، وخطورة مقاربته من منطلقات أيديولوجية متعسفة، سواء في هذا الاتجاه أو ذاك.. وكل ثامن مارس والمرأة بخير.