story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ما الذي يجري في فضائنا العمومي؟

ص ص

لا تبالي أحيانا بالفوضى التي تحيط بك، لا لأنك لا تلقي لها بالا، بل لأنك تنتهي إلى القبول بها التسامح معها، إذ تتحول، مع مرور الزمن، إلى حلقة ‘طبيعية’ مألوفة من حلقات الحياة. لكن يحدث أن ينبهك حادث ما، مثل هذه السائحة الكندية التي زارت بلادنا قبل شهور وتأففت من اختلال الفضاء العام المغربي، إلى فظاعتها وشناعتها وحجم آثارها السلبية في حياتك، أنت الذي كنت تتوهم أنك صرت حصنا منيعا أمام سيلها الجارف. أصوغ هنا هذه الفوضى في شكل أسئلة التي أسوقها هنا على سبيل التمثيل، لا الحصر:

لماذا يميل أغلب الناس إلى مزاحمة العربات والسير في الإسفلت بدل الأرصفة؟ سيقول قائل، بالطبع، إن الأمر راجع إلى احتلال الأرصفة. حسنا، ما السبب وراء احتلالها؟ لماذا يسطو التجار وأصحاب المتاجر والمقاهي، وحتى أصحاب البيوت، على الأرصفة المجاورة لهم؟ ولماذا يميل العديد من المواطنين إلى ممارسة نشاطاتهم التجارية على الأرصفة، رغم أنهم يملكون محالات خاصة بذلك؟

وإذا ركزنا على استعمال الطريق، لماذا ينزع السائقون إلى خرق قوانين السير؟ لماذا يفرط السائقون في السرعة؟ لماذا لا يحترمون الأضواء المرورية؟ ولماذا لا يحترمون الممرات الممنوعة؟ ولماذا لا يقفون بشكل صحيح في المرائب وجنبات الشارع؟ ولماذا يركنون سياراتهم في الصف الثاني، رغم أنهم يعرفون أن ذلك ممنوع؟ ولماذا لا يتوقفون حين يعبر المواطنون الطريق عبر ممرات الراجلين؟ ولماذا يميل البعض، خاصة من أصحاب الدراجات النارية، إلى السياقة في الأرصفة؟

ولماذا يختار الناس إقامة أفراحهم، وسرادقات عزاءاتهم، في الشارع العام، فيمنعون بذلك استعمال الطريق أياما أحيانا؟ ولماذا ينزع ‘الفرّاشة’ إلى احتلال الطرقات ومنع المرور، وعدم التزام الأمكنة التي تخصصها لهم الجهات الرسمية؟ ولماذا يزاول بعض أصحاب الحرف، مثل الميكانيكيين والنجارين والحدادين وغيرهم، مزاولة حرفهم في الرصيف، وفي الإسفلت أحيانا؟

ولماذا باتت العلاقات العامة في الفضاء المشترك موسومة بالعنف والتوتر؟ لماذا لم يعد الناس يحلون مشكلاتهم إلا بالألفاظ النابية، وعبر الملاكمات أحيانا؟ ولماذا بات الناس يميلون إلى استعمال معجم يغرف مما ‘تحت الحزام’، حتى في أحاديثهم العادية، دون أن يبالوا حتى بمن يجب احترام من أصحاب شيب الوقار؟ من جانب آخر، لماذا كثرت السرقات بالانتشال، وحتى بالعنف المفضي إلى الجرح، أو الموت أحيانا؟

يمكنك أن تملأ عشرات الصفحات بهذا الصنف من الأسئلة التي باتت فضاءاتنا العمومية في مدننا كلها تعج بها. بمقدورك أن تختصر هذه الأسئلة في إشكالية عامة: لماذا تنتشر هذه الفوضى، رغم وجود قوانين تكاد تنظم كافة العلاقات العامة والمجالات العامة والخاصة؟ باختصار، هل تحققت نبوءة ‘جيل الضباع’ التي تنبأ بها السوسيولوجي وأستاذ الأجيال محمد جسوس قبل بضعة عقود؟

قبل أيام، طلبت إحدى الكليات المغربية من طلبة مرشحين لولوج سلك الماستر مناقشة وتحليل موضوع قد يكون مدخلا للإجابة على أسئلة فوضى الفضاء العمومي المطروحة أعلاه. وهذا الموضوع هو: “كلما ضعفت الأخلاق، زادت القوانين.” في الواقع، هنا يكمن جوهر المشكلة، لا على مستوى الفضاء العمومي فحسب، بل أيضا على صعيد المعاملات والعلاقات العامة، وحتى على مستوى السلوك الفردي.

في الواقع، ينطوي هذا الموضوع على مفارقة صارخة تنطبق على واقعنا المغربي، قوامها تراجع المنظومة القيمية في الوسط العمومي، في مقابل وجود ترسانة قانونية تزداد نصوصها المرجعية ورصيدها التنظيمي سنة بعد أخرى. والملاحظ أن الشق الأول منه يتعلق بمسار بناء الإنسان، الذي يجب أن تنخرط فيه الأسرة والدولة- من خلال المدرسة والجامعة ومؤسسات التهذيب المختلفة. أما الشق الثاني، فيتصل بتقويم هذا البناء، إذا حصل فيه أي اختلال. بمعنى آخر، نحن إزاء سبب ونتيجة.

من هنا، يمكن القول إن الفوضى التي تربك السير العادي في فضاءاتنا العمومية ناتجة عن إغفال السبب، والاهتمام بمعالجة النتيجة؛ أي إهمال بناء الإنسان، والتركيز فقط على إفرازاته التي هي الفوضى. (ويمكن المجازفة هنا بالقول إن تفضيل التركيز على الفوضى راجع إلى أنها مصدر دخل.) وما لم نُعْنَ بالبناء أولا، فإن فوضى الفضاء العمومي الراهنة ستؤول إلى اضطراب عارم يصعب تخطيه مستقبلا.