ماكرون هرب!
تماما كما كنت أخشى منذ اليوم الأول لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هناك بوادر ثمن علينا أن ندفعه في مقابل التطوّرات الإيجابية التي حملتها هذه الزيارة.
لم تكد طائرة ماكرون تغادر الأجواء المغربية، حتى كان أحد أشهر الحقوقيين المغاربة، فؤاد عبد المومني، يُعتقل ويخضع للتحقيق ولتدبير الحراسة النظرية بعد تقاسمه تدوينة تتعلق بالعلاقة مع فرنسا؛ ثم راحت عصا السلطة تنهال على المواطنين الذين حاولوا ممارسة حقهم الدستوري في الاحتجاج، لأنهم اقتربوا من القنصلية الفرنسية في الدار البيضاء وعبّروا عن الغضب من تصريحات ماكرون حول القضية الفلسطينية داخل البرلمان.
هناك أمام ممثلي الأمة أدلى إيمانويل ماكرون بما يبدو لي أخطر مما قاله عن حماس وحق الفلسطينيين في المقاومة، عندما كرّر العبارة التي وردت في رسالته الموجهة إلى الملك بمناسبة عيد العرش الأخير، والتي تحصر السيادة المغربية على الصحراء في الحاضر والمستقبل..
هكذا بإقصاء مقصود وممنهج للماضي.
ورغم حديث ماكرون عن مراجعة الرطار الاستراتيجي للعلاقات المغربية الفرنسية، ووضعه تلك المراجعهة في سياق ذكرى إعلان “لاسيل سان كلو”، استأثرت عبارج “الحاضر والمستقبل” باهتمام الكثير من الأصدقاء المطلعين والنبهاء.
وتكرّر السؤال مرارا عبر منصات التواصل الاجتماعي وفي بعض الرسائل التي تصلنا من القراء والمتفاعلين: لماذا يتعمّد ماكرون استبعاد الماضي من إقراره بالسيادة المغربية على الصحراء؟
كنت أتجاوز هذا السؤال طيلة الأيام الماضية، اعتقادا مني أن الجلسة الحوارية التي أجريتها بالصوت والصورة مع المؤرخ المجتهد الجيلالي العدناني، قد فسّرت بالملموس وبالدليل والحجة، مقدار مسؤولية فرنسا عن هذا النزاع الذي أعطب تقدّم المغرب منذ الاستقلال.
وبما أن تصريحات ماكرون أمام البرلمان، بعد رسالته الرسمية إلى الملك، أثارت المزيد من الحيرة والتساؤلات حول هذا الموضوع، دعونا نعود إليه، من خلال الكتابات والوثائق التي جمعها المؤرخ العدناني ونشرها على مدى عقود وسنوات، لنفهم لماذا “هرب” الرئيس الفرنسي من مواجهة سؤال الماضي والذاكرة في هذا الموضوع.
لقد هرب ماكرون لأن فرنسا هي سيّدة العارفين بسياق وخلفيات وملابسات نشأة مفهوم “الصحراء الغربية” نفسه، وكيف أنه صناعة فرنسية، استحدثت أول الأمر، ومنذ أواسط القرن 19، لتشير إلى المجال الصحراوي الممتد إلى الجنوب الغربي من المقاطعات الجزائرية الثلاث التي احتلها الفرنسيون، أي وهران والجزائر العاصمة وقسنطينة.
نعم، لقد كانت أولى استعمالات مفهوم “الصحراء الغربية” تشير إلى المجال ممتد بعد ثنية الساسي، قرب فكيك، ويشمل منطقة الساورة وتوات وما دونهما من المناطق التي كانت مغربية خالصة، وإطلق عليها اسم “الصحراء الغربية” تمهيدا لضمها وإخراجها من مجال السيادة المغربية. ثم راح هذا المفهوم ينزاح تدريجيا كلما تقدّم التوغل الاستعماري الفرنسي، حتى أصبح يشير إلى القسم الجنوبي الغربي من المغرب.
ماكرون هرب لأنه يعلم أن المستشرق الفرنسي، هنري دي كاستري هو أول من طرح فكرة توفير منفذ نحو المحيط الأطلسي لفائدة المستعمرة الجزائر، وذلك… منذ سنة 1879. وهي الفكرة التي سيتبناها ويوظفها الحاكم العام للجزائر.
ماكرون هرب لأنه يعلم علم اليقين كيف أن أشهر مقيم عام فرنسي في المغرب، الماريشال ليوطي، خلّف حزمة من الوثائق، عبارة عن رسائل وتقارير، يدافع فيها عن مغربية الصحراء في مواجهة الحكام العسكريين للمستعمرة الجزائرية، الذين طالبوه بالموافقة على تمكينهم من الوصول إلى سواحل الساقية الحمراء.
ماكرون هرب لأن فرنسا هي أفضل العارفين بالوصفات الانفصالية اللا متناهية التي جرّبت في هذا المجال الصحراوي الممتد نحو الغرب الإفريقي، ووظّفت فيها البعثات العلمية والتكتيكات العسكرية والتحالفات الدولية والإقليمية، مع إسبانيا أساسا بعدما جرى استبعاد بريطانيا وألمانيا من الحصول على موطئ قدم في المجال المغربي.
ماكرون هرب لأن فرنسا هي صاحبة أكبر كمّية من الوثائق الرسمية، المدنية والعسكرية، التي تحكي قصص تأرجح هذا المجال الصحراوي بين تقاسم للنفوذ مع الحلفاء الأوربيين، واصطناع لمشاريع دول لم تكتمل، ومحاولات لبناء مصالح اقتصادية جديدة بين المستعمرة السابقة، الجزائر، والساحل الأطلسي للصحراء المغربية…
ماكرون هرب لأن فرنسا سيّدة العارفين بالطفرة التي حصلت في هذا المشروع الانفصالي لحظة اكتشاف الثروات المعدنية الهائلة التي تحتزنها باطن أرض هذه المنطقة، وراحت تتردد أين تحطّ بها، تماما كما يتردد اللص في اختيار المكان المناسب لإخفاء مسروقاته.
ماكرون هرب لأنه يعتقد، كما يعتقد الكثيرون، أن الحقائق والوثائق القانونية والتاريخية التي بدأت تتكشّف في السنوات الأخيرة، لا تكتفي بإثبات مغربية الصحراء المتنازع عليها حاليا، بل تبيّن بالدليل القاطع، كيف أن فرنسا ومعها إسبانيا، حكما مناطق شاسعة من المنطقة في الحقبة الاستعمارية، بواسطة أدوات مخزنية ومغربية خالصة، بل إنهم كانوا يقيمون سلطة القياد والبشاوات على أساس النيابة عن السلطان المغربي الشرعي، فيأتونهم بما يفيد التعيين والتنصيب والمباركة، إما من جانب السلطة المخزنية المركزية أو تلك الخليفية التي كانت في شمال المغرب ومنها كانت إسبانيا تتزوّد بما يمنحها الشرعية أمام أعيان الصحراء.
ماكرون هرب لأنه يعلم أن ما بين أيدي فرنسا من ملفات قانونية حول الماضي، تسمح بتغيير المركز القانوني للصحراء، وتحتّم إرجاعها إلى وضعها ما قبل الاستعماري، أي إلى سلطة الدولة التي كانت تحكمها وتدبّرها، وبالتالي فهي ليست أرضا خلاء تستحق تقرير المصير.
ماكرون هرب لأن فرنسا هربت بكل بساطة سنة 1955، واستبقت استقلال المغرب بعدما بات حتمية لا مفرّ منها، وحذفت قيادة التخوم التي كان مقرها في أكادير، وكانت تشرف على مناطق تشمل الصحراء الغربية الحالية ومنطقة تندوف وجزء من شمال موريتانيا، حتى لا تدخل هذه المناطق ضمن التراب الوطني للمملكة المستقلة.
ماكرون هرب، لأن هناك في فرنسا كما في جوارنا الإقليمي، من يعتقد أن ظهور هذه الحقيقية القانونية والتاريخية، ولابد من التأكيد على طابعها القانوني لأنها تنهي أسطورة الأرض الخلاء التي بني عليها النزاع الحالي من الأصل، ستحيي المطالب الترابية للمغرب في “الصحراء الشرقية” وربما مناطق أخرى.
ماكرون هرب لأنه يعرف كيف افتضح أمر التواطؤ الفرنسي الجزائري ضد المغرب في حرب الرمال، وكيف أن غايتها كانت منع المغرب من استرجاع المنطقة العازلة التي أقامها الفرنسيون داخل التراب المغربي كي لا يصل الدعم المغربي إلى الثوار الجزائريين… وكيف منحت فرنسا للجزائر كل ما تحتاجه من وثائق وخرائط في فترة التفاوض حول ترسيم الحدود، بينما تركت المغرب “يضهصص” في الظلام.
لقد هرب ماكرون من مواجهة الماضي لأنه ورغم اضطراره للاستسلام في معركة شدّ الحبل الأخيرة مع المغرب، لا ينسى أنه ممثل الدولة التي انتذبها أقوياء العالم نهاية القرن 19 لاستغلال وإخضاع المغرب.
اليوم، وبينما نعيش لحظة مماثلة لما عاشه العالم قبل أكثر من قرن لرسم خريطة المصالح والنفوذ وتقاسمها عبر القوى الكبرى، لا ينسى المستعمرون السابقون أن كل طموحاتهم في منطقة الشمال والغرب الإفريقيين، تمرّ عبر إضعاف ومحاصرة وتطويق دولة المغرب، إن لم يكن بالإمكان إزالتها من الوجود…
وهذا معطى ينطبق على الماضي والحاضر والمستقبل.
لكل هذا هرب ماكرون..
فلنكن حذرين ولنتجنّب فخّ “للي شاف الربيع ما شاف الحافة”.