story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ماكرون عاد معتذرا

ص ص

يحلّ اليوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المغرب، في زيارة دولة لم يشهد المغرب مثيلا لها من حيث الحجم والأهمية منذ سنوات طويلة.

فمنذ زمن طويل لم تزيّن الطريق الرابطة بين مطار الرباط سلا والقصر الملكي بالرباط بالأعلام كما هو الحال هذا الصباح، ولم تفتح أبواب المؤسسة التشريعية أمام سياسي أجنبي ليلقي خطابا أمام “ممثلي الأمة” كما سيحدث مع ماكرون غدا.

لسنا مجبرين على الانخراط في لعبة “بارد وسخون” التي تجيدها نخبنا وصحافتنا. فجل الوجوه والأصوات والأقلام التي كانت تملأ الدنيا قبل شهور قليلة بأصناف التقريع والجلد في حق فرنسا، هي نفسها التي تكاد تنتظم اليوم في صفوف التصفيق والرقص للرئيس الفرنسي الذي قالت فيه نخبنا هذه ما لم يقله مالك في الخمر.

سوف نترك العواطف والانفعالات جانبا، وننظر إلى الحدث كما هو، أي كفصل جديد في علاقات دولتين، لا هما بالأعداء كما يزعم البعض في لحظات الجفاء والتوتر، ولا هما بالعشيقين كما يقول بعض “الحسّاد” في لحظات الودّ والدفء.

نحن اليوم أمام إغلاق دائرة كاملة، أي عملية التفافية بقياس 360 درجة، تطلّبت عشر سنوات، أي عقد كامل.

هذه هي المدة الزمنية الفاصلة بين تلك الزيارة التي قام بها ضباط شرطة فرنسيين إلى إقامة السفير المغربي السابق شكيب بنموسى، لمحاولة تسليم ضيفه، المدير العام للأمن الوطني عبد اللطيف الحموشي، استدعاء للمثول أمامها بناء على شكاية تقدّم بها مواطن مغربي.

لو كان هذا الإجراء قانونيا وقضائيا محضا، لما أثار هذه الأزمة التي دامت عمليا، وبدرجات متفاوتة زهاء عشر سنوات. بل كانت تلك محاولة فرنسية لتجريب ألاعيب اعتادت عليها باريس مع مستعمراتها السابقة وأصدقائها الخانعين، لتحصيل تنازلات جديدة من مغرب لم تكن تدرك حجم التغيير الذي دخله في شخصيته وقواعد سلوكه مع أصدقائه كما خصومه.

بين مدّ وجزر، عبرت العلاقات المغربية الفرنسية صحراء شاسعة طيلة السنوات العشر الماضية، وجرّب فيها إيمانويل ماكرون أسلوبه النزق من خلال التزحلق فوق الموجة الجزائرية ومطالبة المغرب بالخضوع لإملاءاته، ليستيقظ هذا الصباح على واحدة من كبرى الصحف الفرنسية تقول: ليس بمقدور ماكرون أن يكون شيراك ولا ساركوزي، وبالتالي فهو مطالب بإثبات ودّه تجاه المملكة الشريفة.

وهذا ما حصل بالضبط. اجتاز ماكرون الاختبار، وحاول صعود الجبل، لكنه اليوم يعود معتذرا.

قبل بضعة شهور، وعندما كان قصر الإليزيه يسرّب خبر زيارة ماكرون للمغرب ليرد عليه مصدر مجهول من الرباط ألا زيارة مرتقبة، كان محللون سياسيون فرنسيون يناقشون الوضع في بلاطو إحدى القنوات الفرنسية، لتتشابه تحليلاتهم حتى كادت تتطابق: ماكرون لن يهزم محمد السادس، هذا الأخير ملك ولديه كامل الوقت، بينما رئيسنا منتخب ولديه ولاية محدودة سيرحل بعدها… لن يتردد الملك في تعليق الوضع إلى ما بعد ولاية الرئيس إن لم يبادر هذا الأخير بحل الأزمة.

وكذلك كان.

سنحاول بدءا من اليوم، وطيلة اليومين المقبلين، أن نتغافل عن الوجوه والأصوات نفسها التي كانت تفطر وتتعشى على انتقاد فرنسا وجلدها انتصارا لكبرياء “المخزن”. وسنتأمل من خلال برنامج زيارة الدولة، كيف أن كثيرا من المشاريع والصفقات التي سيتم التوقيع عليها، طُبخت على مهل وبكل اليقين الممكن في نجاحها، منذ سنة أو سنتين أو أكثر.

سنكتشف أن بعض تلك المشاريع كانت تنجز في مراحلها الأولية وتشق طريقها نحو التدشين في عزّ تطاير رذاذ البعض ممن كادوا يبشّرون بنهاية العصر الفرنسي في المغرب.

وسنعرف أن منطق الدول مختلف كليا عن منطق المجتمعات والأشخاص. وأن المصالح تنتصر في النهاية، وأن متابعة الشؤون السياسية، خاصة منها الدولية، تتطلّب الكثير من الهدوء والاتزان والتواضع.

الدورة الكاملة التي قامت بعا فرنسا منذ 2014 على الأقل، كانت ثمرة لتفكير وتخطيط وتدبير مغربي، علينا أن نقرّ ونعترف بذلك، وإن كنا قد هاجمنا أو انتقدنا بعض الفصول السابقة في هذا المسار.

وصانع القرار المغربي لعب بكل الدهاء الممكن تصوّره في محيط رقعة لعبة الشطرنج، لترويض “الديك” الفرنسي منفوش الريش، وإجباره على العودة إلى العش، مستفيدا من تشكيلة سخية من العقود والصفقات هذا صحيح، لكنه مطأطأ الرأس، وحامل لبيضة نادرة “شحّفنا” الفرنسيون في رحلة البحث عنها منذ الاستقلال، وهو اعترافهم بمغربية الصحراء…

كيف لا وفرنسا هي صانعة وراعية مشروع الانفصال في أراضي الصحراء من بدايات القرن العشرين، حين كانت تبني خططها بالكامل على فرضية استعمارها الدائم للجزائر، وبالتالي السعي لربط هذه الأخيرة بالساحل الأطلسي ومن خلاله بالمستعمرات الفرنسية السابقة في الغرب الإفريقي.

بكل الموضوعية الممكنة أيضا، ومع مواصلة الحرص على التمييز بين العواطف والانفعالات، ووصف الواقع كما هو لا كما نريده، لابد أن نعترف أن “التطبيع” المغربي مع إسرائيل، ومنح العرّاب الأمريكي أوراق لعب إضافية في المنطقة، كانا من بين ما جعل باريس “تطيّح كواريها” وتبدأ في البحث عن خط الرجعة وتتخلى عن رهانها الخاسر على نظام جزائري تائه ومغرور.

أتذكّر دائما زيارة ماكرون السابقة، عام 2017، لأنه كان قد تأخر في الحضور إلى ندوته الصحافية وترك الصحافيين المغاربة جوعي وعطشى إلى ما بعد أذان المغرب في يوم رمضاني، وأذكر أيضا كيف أن المقاربة الأمنية انطلقت ضد حراك الريف مباشرة بعد ذلك. واليوم يلاحظ الجميع كيف صدر العفو على مجموعة من الصحافيين والمدوّنين، وأجري التعديل الحكومي، عشية وصول الرئيس الفرنسي وبعد إعلانه الاعتراف بمغربية والصحراء.

هناك شيء ما خفي.. غامض.. وربما ساحر، يربط مصائرنا بطبيعة علاقتنا مع فرنسا.

جعل الله زيارة ماكرون مقدم خير، وأعاذنا من شرورها…
زارتنا البركة Mr le Président !