story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ماذا يجري في غرب افريقيا؟

ص ص

في 28 يناير 2024، أعلنت 3 دول في غرب افريقيا؛ هي مالي وبوركينافاسو والنيجر يحكمها عسكريون، انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، ارتكازا على حجج ثلاث: أن المنظمة صارت تمثل مصالح القادة لا الشعوب، بحيث أشار بيان الانسحاب إلى خيانة منظمة “الإيكواس” لقيمها التأسيسية؛ وأن العقوبات التي تفرضها على تلك الدول “غير قانونية وغير مشروعة وغير إنسانية وغير مسؤولة”؛ ثم فشل المنظمة في المساعدة على مكافحة التهديدات الوجودية في المنطقة مثل الإرهاب والتطرف.
ويأتي قرار الانسحاب بعد خطوات أخرى مماثلة، منها الإعلان عن ميثاق “ليبتاغو-غورما” للتعاون والدفاع المشترك، في شتنبر الماضي، قضى بتأسيس تحالف جديد أطلق عليه اسم “تحالف دول الساحل”.
في هذا السياق، يبدو حدث الانسحاب من “الإيكواس” لافتا للانتباه، فهو يعكس حجم التحولات الجارية في منطقة غرب افريقيا، التي بدأت بسلسلة انقلابات ناجحة في مالي وبوركينافاسو والنيجر، ثم أفضت إلى تطورات جيوسياسية غير مسبوقة، حيث تمكنت الدول الثلاث من إجبار فرنسا على سحب قواتها العسكرية والأمنية، ثم الإعلان عن تفكيك مجموعة الساحل الخمس(G5) التي تأسست في فبراير 2014 بدعم فرنسي، في مقابل اتساع نفوذ قوى دولية وإقليمية أخرى مثل الصين والإمارات وتركيا وإيران، ويمكن إدراج المبادرة المغربية بشأن ربط دول الساحل بالأطلسي في السياق الجيوسياسي الجديد نفسه.
تطورات متسارعة ومتلاحقة، تفكك القديم وتبني شيئا جديدا لم تتضح معالمه بعد، ما يستدعي التوقف عند بعض دلالاتها:
أولا، أن انسحاب مالي وبوركينافاسو والنيجر من “الإيكواس” حصل في سياق الحديث المتزايد عن تراجع النفوذ الفرنسي في المنطقة، وأبرز مؤشراته انسحاب القوات العسكرية الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينافاسو، تحت ضغط شعبي واسع. ففي مالي، اتهمت القوات الفرنسية رسميا من لدن الحكومة بدعم بعض الحركات الإرهابية والمتطرفة، علاوة على فشل تلك القوات ميدانيا في تحجيم الظاهرة الإرهابية التي أصبحت تمرح كما تشاء خصوصا في المناطق الحدودية المشتركة بين الدول الثلاث التي تسمى بـ”ليبتاغو-غورما”، والتي سمي ميثاق التحالف السياسي والعسكري بينهم باسمها. واللافت أن روسيا تبدو هي المستفيد الأول من طرد القوات الفرنسية، حيث استدعيت مجموعة “فاغنر” الروسية لمساندة الجيوش في حربها على الإرهاب، وبالتالي ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب الجيش الفرنسي.
ثانيا، كشفت تلك الأحداث عن تراجع في نفوذ نيجيريا والجزائر في منطقة الساحل، فالأولى، أي نيجيريا، فشلت في تعبئة دول “الإيكواس” من أجل الإطاحة عسكريا بالسلطات العسكرية الحاكمة في النيجر، لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة، ما جعلها تفقد نفوذها وتسوء علاقاتها أكثر بالدول الثلاث. أما الثانية، أي الجزائر، فمؤشرات التدهور في نفوذها أقوى، بدءا من رفض السلطات الحاكمة في النيجر مبادرتها للوساطة من أجل حل سياسي خلال مرحلة انتقالية من 6 أشهر، ما أدى إلى تدهور سريع في العلاقات بينهما، أما مالي فقد اتهمت الجزائر في بيان رسمي بالتدخل في شؤونها الداخلية، وهو تعبير عن أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين.
ثالثا، يؤكد الانسحاب تراجع أكثر في مشروعية ونفوذ منظمة “الإيكواس”، التي صارت في تصور الحركات الاحتجاجية المؤيدة للأنظمة القائمة في النيجر وبوركينافاسو ومالي مجرد ناد يرعى مصالح قادة الأنظمة في دول منطقة غرب افريقيا على حساب مصالح شعوبها. وقد كشف موقفها الضاغط على السلطات الحاكمة في الدول الثلاث، وبالأخص في النيجر، عن مستوى التماهي بين موقف “الإيكواس” والموقف الفرنسي، ما جعل شعبيتها تتدهور أكثر، وصار التشكيك قويا في قدرة المنظمة على تحقيق تعزيز ثلاثية التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يجعل مصداقيتها اليوم على المحك.
رابعا، أبرز قرار الانسحاب هشاشة منظمة “الإيكواس”، وأبان بوضوح عن ضعف قدرتها على مواجهة التهديدات الوجودية مثل التطرف والارهاب والانفصال، خصوصا أن الانسحاب تزامن تقريبا مع حدث تفكيك “مجموعة الساحل الخمس G5″، التي كانت تشمل الدول الثلاث إضافة إلى تشاد وموريتانيا، ومن شأن الحدثين معا، الانسحاب والتفكيك، أن يفتح الباب أمام هيكلة جيوسياسية جديدة في المنطقة، قد تكون على حساب النفوذ الفرنسي والجزائري والنيجيري، وقد تصب في صالح روسيا والصين كما يظهر حتى الآن. لكن تبقى كل الاحتمالات ممكنة، خصوصا وأن تلك التطورات كشفت، مثلا، عن تناقض روسي جزائري في مالي على الأقل، كما أبانت عن تأثير محدد للولايات المتحدة الأمريكية على الأحداث في النيجر.
وعموما، تبدو المنطقة في قلب التفاعلات الإقليمية والدولية، حيث تعدد الفاعلين، وتعدد المبادرات المطروحة على طاولة قادة المنطقة، وبالتالي تعدد الرهانات والمصالح والأجندات، وهي مبادرات ضاغطة على دول هشة مؤسساتيا وأمنيا وسياسيا، تعوزها الخبرة في إدارة المصالح الدولية المتناقضة، ما يجعلها أمام خيارات وقرارات مصيرية، قد تُغرق المنطقة أكثر في عدم الاستقرار أو تنهض بها من واقع الفقر والهشاشة نحو وضع مختلف.