مات القيصر
وفاة الأسطورة الألماني فرانز بكنباور لم يكن أمس خبرا عاديا في أوساط كرة القدم العالمية، فالرجل من طينة العظماء الذين ملؤوا الدنيا و شغلوا الناس في مجالاتهم، و له رمزية خاصة في ألمانيا و أوروبا و كل قارات المعمور، كان نجما حقيقيا و شخصية فذة ساهمت في الكثير من التحولات الجميلة التي عرفتها الكرة عبر تاريخها الطويل.
الأجيال التي عايشته كلاعب تُجمع على أن ” القيصر ” سبق عصره بسنوات كثيرة ، يظهر ذلك بشكل واضح في الأرشيف الذي يخلد لفترتي الستينات و السبعينات ، كان متفردا في طريقة لعبه و مداعبته للكرة ، و أول مدافع يلعب بأناقة ناذرة في زمن كانت خطوط الدفاع في كرة القدم تعني الخشونة و القوة البدنية و ” الضرب و الجرح “، و أول لاعب يصعد من الدفاع إلى الهجوم بسلاسة قلما نشاهدها حتى في عصرنا الكروي الحالي.
حمل شارة العمادة و كان قائدا لمنتخب ألمانيا التاريخي في مونديال 1974، رفقة سيب مايير و غيرد مولر و بول برايتنر و أولي هونيس و بيرتي فوكس و آخرون إلى الفوز باللقب على حساب هولندا كريف و نيسكنز و كرول و الكرة الشاملة التي جاء بها العبقري رينوتز ميتشيل.. المونديال الذي يعتبره مؤرخو كرة القدم أنه نقطة تحول في الكثير من الخطط التكتيكية القديمة، و هو الذي نقل الكرة من طريقتها الكلاسيكية المفرطة في القوة البدنية و جمود اللاعبين في مراكزهم، إلى عصر الفنيات و السرعة و تبادل الأدوار داخل الملعب.
فرانز بكنباور يرمز أيضا إلى عراقة المدرسة الألمانية في كرة القدم و خصوصياتها المتفردة في اللعب الجماعي و الإنضباط التكتيكي و الواقعية في اللعب و عدم الإستسلام حتى صافرة النهاية، و زادت رمزيته عندما أصبح مدربا ل ” المانشافت ” و قاده إلى لعب المباراة النهائية أمام أرجنتين مارادونا الرهيب في مونديال المكسيك 86، و الكثيرون لازالوا يتذكرون كيف كانت ألمانيا منهزمة بهدفين لصفر، و بفضل ” الكوتشينغ ” الذكي لبكنباور تمكن رفاق رومينيغي من تعديل النتيجة قبل أن يجهز عليهم فالدانو بهدف ثالث في الدقائق الأخيرة.
الإحترام الكبير الذي كان الألمان يكنونه لقيصرهم زاد مع إحرازه للقب المونديال الموالي في إيطاليا 90 ، بعدما بلغت ” ماكينته ” ذروة انسجامها إثر عمل استمر أربع سنوات حافظ فيها على خصوصيات الكرة الألمانية بكل قوتها التكتيكية و الذهنية الضاربة، و تمكن في كأس العالم تلك أن يدخل التاريخ كأول إنسان يفوز به لاعبا و مدربا.
على صعيد التسيير الرياضي أثبت فرانز بكنباور أيضا كفاءته، عندما ترأس ناديه باييرن ميونيخ لسنوات طويلة و ساهم في دخوله إلى مجموعة الأقوياء ماليا في أوربا و حافظ على توهجه و حضوره الدائم في الأدوار المتقدمة لكأس عصبة الأبطال الأوربية و أيضا في الفوز المتوالي بلقب الدوري الألماني البوندسليغا.
المثير للإحترام أكثر في شخصية الراحل فرانز بكنباور، هي سيرته البيضاء طوال حياته كلاعب و كمدرب و كمسير، إذ لم يتورط في أي فضيحة أخلاقية أو كان محور جدل إعلامي و جماهيري أو اتهامات بالفساد المالي كما حدث لكثير من الوجوه الشهيرة في تاريخ كرة القدم، الرجل كان نجما حقيقيا ذو أخلاق عالية، و عاش طوال حياته نقيا و محترما لنجوميته… فرانز بكنباور أسطورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.