لماذا يحاول “الشرعي” فصل الريف عن المغرب وتزوير تاريخنا؟

في مقاله الموسوم بـ”المغرب: ذاكرة جماعية واعية ومتأصلة”، يقدّم السيد أحمد الشرعي نصاً يُراد له أن يكون احتفاءً بوحدة المغرب واستمرارية مؤسساته، غير أنه – عن قصد أو بغيره – وقع في مأزق خطير: تأريخ الوطن من موقع الإقصاء، لا من مقام الإنصاف، وتغليف المركزية التاريخية برداء الوطنية، بما يجعل نصه، في بنيته العميقة، معولاً لهدم ما يدّعي الدفاع عنه.
لقد افتتح مقاله بعبارة تختزل منطلقه الإيديولوجي:
“يستمد المغرب، الذي يتمتع بتراث قوي ممتد على مدى ثلاثة عشر قرنًا، تماسكه واستقراره وهويته من عمق مؤسسته الملكية.”
وهي جملة، وإن بدت في ظاهرها تمجيداً للتماسك المؤسساتي، فإنها في حقيقتها تنطوي على اختزال سافر لمسار تاريخي معقد ومركب، وخلط متعمد بين الدولة الادريسية والدولة العلوية الممتدة الى اليوم، وهي محاولة لجعل المؤسسة الملكية المصدر الوحيد لكيان الدولة المغربية، وهي رسالة سياسية نخبوية لا تمت للقراءة التاريخية بصلة، كما لو أن المغرب لم يكن موجوداً قبل نشوء فاس، أو أن تاريخ البلاد كله قد جرى وفق نسق واحد انطلق من المركز ولم يعرف تنوعاً ولا تعدداً.
إن ما يُفهم من هذا الطرح، بمآلاته الرمزية، هو محو مقصود أو غير واعٍ لذاكرة الريف، الذي احتضن أول تجربة سياسية إسلامية منظمة في المغرب، ممثَّلة في إمارة بني صالح في النكور، منذ مطلع القرن الثامن الميلادي، أي قبل قيام دولة الأدارسة نفسها بحوالي قرنين.
وهذا المحو لا يُعدّ خطأً في التأريخ فحسب، بل هو تزييف للهوية الوطنية، لأن تجاهل الكيانات التي كانت في المغرب قبل نشوء العاصمة المركزية، يفضي عمليًا إلى تشييد وطن ناقص الذاكرة، مشوّه البنية، هشّ أمام رياح التأويلات المعادية.
والخطير في مقال الشرعي أنه يلتقي، من حيث لا يدري أو ربما يدري، مع الخطاب الانفصالي الذي تروّجه جهات أجنبية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية في الجزائر، والتي لا تكف عن الادعاء بأن الريف لم يكن يومًا جزءًا من كيان المغرب التاريخي، مستغلة بعض الخونة الذين ارتموا في أحضانها.
وهو الطرح الذي يقصى اليوم منطقة الريف من التأريخ الرسمي، ويُمحى دوره في مقاومة الاستعمار وتأسيس الدولة، فيُصبح هذا الإقصاء مبررًا موضوعيًا – ولو عن غير قصد – لادعاءات الانفصال، ويُغذّي الروايات المعادية التي تستغل خطايا السلطة والتهميش لتأليب الشعور الجمعي ضد الدولة المركزية.
إن النسيج التاريخي للمغرب لم يُنسَج بخيط واحد، بل تَشكّل من جدائل متعددة، من النكور وسجلماسة، إلى برغواطة وتافيلالت، ثم من المرابطين إلى السعديين والعلويين.. وقد تميز هذا المسار بتفاعلات معقدة بين المركز والأطراف، وبين السلطة والمجتمع، وبين القبائل والعواصم.
وبالتالي، فإن اختزال المغرب في مركزية واحدة، أو في سردية أحادية، هو إهانة للتاريخ، وتقزيم لثرائه وتنوعه.
أما الربط المطلق بين “الملكية” و”الشعب”، على نحو ما عبّر عنه الشرعي في قوله: “الملكية هي الشعب والشعب هو الملكية”، فهو خطاب يغلق باب التعدد، ويفرض تماثلاً قسرياً يتناقض مع جوهر الدولة التاريخية المغربية، التي لطالما قامت على مبدأ البيعة التفاوضية، لا على الذوبان الكلي للمجتمع في مؤسسة الحكم.
إن هذه المقولة، من حيث لا يشعر قائلها، تؤسس لفهم سلطوي للوطن، يجعل من كل من يتمسّك بتاريخه الخاص، أو هويته الجهوية، أو ذاكرته المحلية، خصمًا للوطنية، بل عدوًا للمؤسسة، وهذا جوهر الأزمة التي يخلقها هذا الخطاب.
ونحن – أبناء الريف – لا نطلب امتيازاً، ولا نرفع شعارات الانفصال، وإنما نُطالب فقط بأن يُروى تاريخ المغرب كاملاً، بعدله وتعدده، دون انتقاء، ولا تهميش، ولا تغليب لسردية على أخرى.
نُطالب بأن يُعترف بدور محمد بن عبد الكريم الخطابي كما يُعترف بعلال الفاسي، وأن تُروى معارك أنوال وتافرسيت كما تُروى وقائع ثورة الملك والشعب.. فالتاريخ لا يُبنى بالمحاباة، بل بالعدل، ولا يتقوّى بالنسيان، بل بالاعتراف.
إن مقال الشرعي، إذ يتغنّى بالتماسك، يُقوّضه من حيث لا يدري، لأنه يظن أن الوحدة تفرض، بينما الحقيقة أنها تُبنى.. تُبنى بالحوار، بالاعتراف، بالإنصاف، وبالاحترام الكامل لتاريخ كل الجهات والمكونات.
ختامًا، فإننا نقول لكل من يكتب في الشأن الوطني من موقع النفوذ أو منابر القرار: لا تُنكروا علينا تاريخنا إن أردتم منّا الولاء، ولا تحذفوا أسماءنا من دفاتر الوطن، ثم تطلبوا منا أن نهتف باسمه.
الريف لم يكن يومًا على الهامش، بل كان دائمًا في صلب المغرب، بل صانعا لكثير من أمجاده، ولا يزال..، ومن أراد مغربًا قويًا، موحّدًا، متماسكًا، فليبدأ من هناك: من الحقيقة.