لكل يساره الذي يستحق
عاشت بريطانيا وفرنسا قبل أيام على وقع انتخابات برلمانية عرفت انتصارا حاسما لليسار في كلا البلدين. لكن الغريب هو حجم الفرحة في بلدان أخرى لم يبق فيها من اليسار سوى الاسم.
لقد أعلن يساريونا عن انتصار اليسار وتصديه لليمين في بريطانيا وفرنسا، وكأنما هذا يزكي بأي شكل من الأشكال ممارستهم في المغرب. ذكرني هذا السلوك بذلك الشخص الذي ذهب ليخطب، وعندما سأله والد العروس عما يتقاضاه، أجاب الشخص بأن راتبه والقايد هو مليون؛ لكنه لم يقل بأن راتب القايد هو تسعة أعشار ذلك الراتب.
في بريطانيا، لم يكن فوز اليسار مفاجئا لأحد. فقد أبانت استطلاعات الرأي المتكررة أن حزب العمال سيكتسح الانتخابات، لا لقوة اليسار إنما لضيق ذرع البريطانيين بحكم المحافظين.
في هذه الانتخابات، حصل حزب العمال على ثلثي المقاعد، لكنه لم يحصل إلا على ثلث الأصوات. وهي نسبة أقل مما حصل عليه الحزب في 2017 عندما خسر الانتخابات رغم حصوله على 40 بالمائة من الأصوات. كذلك، حزب العمال اليوم يكاد لا يختلف عن حزب المحافظين في قضايا كثيرة مصيرية. هذا لا يعني تبريرا للأربعة عشر عاما الكارثية التي قادها حزب المحافظين، والتي حولوا فيها بريطانيا من دولة يقتدى بها في جميع المجالات، إلى دولة تعاني في كثير من المجالات.
لكن النقاش العمومي في بريطانيا تأرجح نحو اليمين بشكل كبير إلى درجة أنه كان على حزب العمال أن يتأرجح هو كذلك إلى اليمين. مثلا، في الشأن الدولي حزب العمال أعلن دعمه لكل من أوكرانيا وإسرائيل. في الشأن الاقتصادي، أعلن العمال على أنهم لن يتراجعوا عن معظم الخطوات التقشفية التي أقرها المحافظون.
في فرنسا، قبل الحديث عن الانتخابات ونتائجها، لابد من وضعها في سياقها. اليمين المتطرف فاز فوزا ساحقا في الانتخابات الأوروبية. كردة فعل غير متوقعة وغير ضرورية، دعا رئيس البلاد ماكرون إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، في مغامرة سياسية كي يفرض مرة أخرى على الفرنسيين الاختيار بينه وبين اليمين المتطرف.
أحزاب متعددة محسوبة على اليسار الفرنسي (حزب فرنسا الأبية، الحزب الاشتراكي، الحزب الشيوعي، حزب الخضر) قررت الدخول في تحالف كبير من أجل التصدي للصعود الصاروخي لحزب التجمع الوطني اليميني.
حصل حزب التجمع الوطني فعلا على أكبر عدد من الأصوات في الدور الأول من الانتخابات الفرنسية. لكن، وبفضل تحالفات غير طبيعية بين حزب وسط اليمين لماكرون وتحالف اليسار، استطاع الفرنسيون كبح جماح التجمع الوطني على الأقل في الوقت الراهن. أي أن هذا لا يمكنه أن يكون انتصارا تاريخيا أو إقرارا بقوة البرنامج اليساري، وإنما تصويت تكتيكي من أجل عدم ترك المجال لأقصى اليمين من أجل حصد أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة.
ستظهر الأيام القليلة المقبلة مدى تماسك التحالف اليساري. حيث إن مرحلة تشكيل الحكومة ستبرز إلى أي جهة ستميل مهمة تشكيل الحكومة.
الذي يجب أن ننتبه إليه في كلتا الدولتين، وأهم معطى في رأيي يجب الاشتغال على فهم أسبابه هو الصعود اللافت لليمين القومي. في بريطانيا، أحد أسباب فوز العمال هو اقتسام الأصوات بين المحافظين وحزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج، أحد رموز حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
حصل حزب الإصلاح على 14 بالمائة من الأصوات لكنه حصل فقط على خمسة مقاعد، أو 1 بالمائة من حجم المقاعد، وذلك بسبب ما ذكر أعلاه عن كونه اقتسم الأصوات مع المحافظين. لكن ماذا لو استمر حزب الإصلاح في الصعود وقام بتعويض المحافظين كأول حزب محافظ في بريطانيا؟ كذلك هو الشأن بالنسبة لفرنسا، والتي كان فيها حزب التجمع الوطني اليميني يضم مقاعد برلمانية معدودة على رؤوس الأصابع عند تقلد ماكرون لرئاسة فرنسا، لكنه الآن وصل إلى أكثر من 150 حسب النتائج الأولية.
لذلك ففي البلدين معا، وبعد أن ينتهي اليسار من الاحتفال المستحق بالانتصار الانتخابي، وجب على قادة اليسار في بريطانيا وفرنسا الاشتغال على التحديات العميقة والبنيوية التي أدت إلى صعود اليمين القومي في البلدين خصوصا وفي الغرب عموما.