لقائي مع “السفير” الإسرائيلي

سأرويها لكم كما تروى الخرافة:
كنت مساء أمس من المدعوين لحضور حفل من تنظيم السفارة الأمريكية في الرباط، بمناسبة العيد الوطني للولايات المتحدة الأمريكية.
وصلت في الموعد المحدد في الدعوة، وهو السادسة مساء، وبدا لي منذ البداية أن عدد الحضور كبير بالنظر لكثرة السيارات في محيط السفارة.
في مثل هذه اللقاءات، عليك أن تصافح المسؤول الدبلوماسي الأول، قبل أن تأخذ راحتك في التجول في المكان والتعارف وتجديد الاتصال بمن تعرف ضمن الحضور… ولأن الأمر يتعلّق بالسفارة الأمريكية بما يعنيه ذلك من كثرة الضيوف، تم تنظيم العملية بتوجيه الضيوف نحو صف يتقدّم ببطء، يحدّه شريطان من الجانبين، وينتهي عند أحد أفراد طاقم السفارة الأمريكية، والذي يفسح الطريق أمام الضيوف في شكل مجموعات من أربعة ضيوف في المعدل.
عندما وصلت إلى نهاية الصف وأصبحت أول من سيتقدم للسلام على القائمة بأعمال السفارة الأمريكية، إيمي كترونا، فوجئت بشخص يتقّدم نحوي من خارج الصف، ممن دخلوا مبكرا ويوجدون داخل الساحة، ولغة حركات جسده كمن يتوجّه نحو شخص ما طلبا للحديث إليه، ولأنني لم أتعرّف عليه واعتقدته من أفراد طاقم السفارة الأمريكية، أفسحت له المجال لكي يكلّم من يوجدون خلفي، لكنه أشار إلي بالاقتراب منه، ففعلت، لكنّه اقترب أكثر وشدّني إليه وخاطبني بطريقة من لا يريد لحديثه أن يُسمع.
بعد ثوان من الدهشة فهمت أن الرجل يقدّم لي نفسه، سمعت اسم جوزيف بن دافيد، وكنت حتى هذه اللحظة أعتقد أنه أمريكي وأترقّب ما الذي يريده مني، فكان محدّثي حريصا كل الحرص على أن يدقّق لي هوّيته بذات الصوت الخافت ويده التي تشدّني إليه كأنه يخشى ردّة فعل: “أنا رئيس مكتب الاتصال الإسرائيلي”.
الله أكبر!
هنا بدأت دهشتي تتبدّد قليلا، رغم أنها لن تفارقني طيلة هذا اللقاء القسري، خاصة عندما رفعت بصري ورأيت مرافقيه يقفون خلفه، ومن بينهم صديق مغربي كنت أعرف أنه التحق بفريق المكتب بعد إحداثه، وتأكدت من ذلك بعد تسريبات عملية القرصنة التي همّت بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي… وكان هذا الصديق قد رمقني منذ وصولي إلى المدخل ووقوفي في بداية الصف.
حاولت تبديد حالة الوجوم التي خيّمت على الموقف، وكسر الترقّب لردة فعلي، وخاطبت صديقي المغربي الواقف خلف المبعوث الإسرائيلي بنبرة ودّية وغير متشنجة، قائلا “أعرف أنك وراء تدبير هذا الموقف”.
لكن الرجل الذي جرّني إليه أصرّ على أن يعيدني إلى حديثه الخافت، مكرّرا تقديم نفسه وصفته.
استجمعت كل قواي الدبلوماسية وحاولت إظهار أقصى قدر من الهدوء وقلت له: “للأسف لا أستطيع أن أقول لك عبارة “سعيد بلقائك” (nice to meet you)”، فردّ كمن حضّر الجواب مسبقا، أنه يعلم جيدا أنني لا أرغب في لقائه، وزاد أنه يعرفني جيدا (كأنه يبرئ صديقي المغربي من تدبير اللقاء)، وأنه يتابع ما ننشره في “صوت المغرب”، وأنه حرص على أن يكلّمني رغم ذلك (أي رغم خطنا التحريري الرافض للاحتلال والجرائم الإسرائيلية في فلسطين).
سألته مستنكرا: وهل تقرأ العربية؟ فردّ أن الترجمة سهلة وتسمح له بالاطلاع على ما ينشر، وأن الغاية من وجوده في المغرب هي السعي ل”السلام”.
قاطعته قائلا: “السلام أولا…”، فانتقل بسرعة كمن يحرص على تفريغ الشحنة التي قام بتحضيرها كاملة، إلى الحديث عن المغرب وكيف نشأ في بيت تعلّق فيه صورة الحسن الثاني… قلت له هل تريد أن تقول إنك مغربي؟ ردّ أنه لم يولد في المغرب لكن والديه مغربيين…
هنا كنت أسترجع كامل وعيي وأبدد دهشتي الأولى، ولا أعرف كيف بدت لغة جسدي لكنني كنت أرغب في شيء واحد هو إنهاء المحادثة.
تركت “يوسي بن دافيد” يتحدث دون تعقيب مني، لأن الأسطوانة لم تكن جديدة علي، من “حب المغرب” وتمني النصر للملك، والبحث عن السلام… فخلّصني موظّف السفارة الأمريكية برفعه الحاجز داعيا إياي إلى مرور استثنائي لأنه اضطر لتمرير أشخاص آخرين كانوا يقفون خلفي بعدما أمسك بي الموظف الإسرائيلي.
سردت تفاصيل هذه الواقعة لأسباب كثيرة، منها ألا تبقى في ذمّتي قصة “لقاء” مع آخر شخص يهمني لقاؤه فوق تراب المغرب. ولأن مثل هذا اللقاء لا يحصل تلقائيا ولا بشكل طبيعي فإن بقاءه سريا لا يستقيم.
ثم إن المشهد أكد لي شخصيا قناعة راسخة، وهي أن الموضوع أعقد بكثير من مجرّد إعلان موقف والاسترخاء في منطقة الراحة.
وإذا كانت الدولة المغربية قد أعادت علاقاتها الرسمية مع إسرائيل في سياق خاص (ما بعد واقعة الكركرات) وبتأطير دقيق تولى القيام به الديوان الملكي لحظة التوقيع على الاتفاق الثلاثي وما أعقبه من اتصال ملكي بالرئيس الفلسطيني… فإن الكيان يلعب لعبة أخرى ويصرّ على فرض حضوره علينا، واقتحام أضيق دوائرنا الخاصة حتى وإن كانت في صفّ بروتوكولي لإلقاء تحية ودّية.
إن المعركة لا تُخاض فقط على الجبهات، بل تُخاض أحيانا وأنت ترتدي بذلة رسمية وتقف في صف انتظار.
وتُخاض حين تتعرض لمحاولة توريط ناعم، لا بإقناعك، بل بإظهارك متواطئا أو قابلا أو ساكتا، وفي مكان أنت فيه ضيف لا نية ولا غرض لك في أي تشويش على المضيف.
ولأنني كما كنتُ دائما، أؤمن بأن الحرية تبدأ من الكلمة، فقد آثرت أن أشارككم هذه القصة كما هي، لأنها تعني أن المعركة مستمرة، وتحتاج نفسا طويلا، واشتباكا واعيا بالتعقيدات والتفاصيل.
ليعذرني بعض الأصدقاء ممن يعلنون مواقفهم المبدئية، عن صدق وحسن نية، لكن أن تعلن أنك “تكره إسرائيل”، كما فعل شعبان عبد الرحيم، وتصفق الباب خلفك وتنام مرتاح الضمير، هو انتصار لذاتك وبحث عن خلاصك الفردي، وليس انتصارا لفلسطين ولا لمصلحة المغرب.
المطلوب من المثقف والمنخرط في جبهة الضمير الجماعي أن يقترب أكثر من الحافة، ويجرّب المشي على شفير الهاوية، وخوض حقول الألغام التي يزرعها الخطاب الآخر، ويتمرّن على مكره ودهائه، ويمنح المغربي ما يكفي من أدوات للفهم والتفكيك والمرور بين الأسلاك الشائكة.
فعندما يتجرأ “خصمك” على اقتحام سمعك وبصرك بهذه الطريقة، دون دعوة أو تمهيد، فهو لا يسعى إلى حوار بقدر ما يطمح إلى انتزاع اعتراف، أو على الأقل كسر الجدار النفسي الذي تبنيه بينك وبينه.
وحين يصرّ على الظهور بمظهر المُصغي والمتفهّم حتى وأنت تخبره بعدم ترحيبك به، بل يُثبّت عينيه فيك كمن يراقب تأثير السمّ، فاعلم أنك لست أمام لقاء عابر، بل أمام تمرين استخباراتي ناعم في هيئة مصافحة دبلوماسية.
لاحظوا كيف أن هذا الخصم لا يتحرك فقط باندفاع عقائدي أو بغطرسة القوّة، بل بذكاء بالغ ومكر مدروس، يجعله يتوجّه إلى خصومه لا إلى حلفائه، ويبحث عن كسر الحواجز لا لأنها سقطت، بل ليختبر متانتها.
تزامُن هذا المشهد الذي عشته أمس مع سياق تصاعد التوتّرات البينية عندنا، وارتفاع حدة المواجهة التي تلامس خطّ العنف، بل وتقتحم هذا الخط من خلال عنف الدولة المتمثل في اعتقال ومحاكمة من قاموا بتعبيرات مرتبطة بإسرائيل؛ يعني أن المناعة لا تُبنى فقط بالمواقف القوية والشعارات الحادة، بل أيضًا بالقدرة على تدبير الصراع بعقل بارد، ووعي شجاع، لا يسقط في فخ الاصطفافات القاتلة، ولا يخلط بين الخصم الخارجي والسجال الداخلي.
إن اليد الصهيونية، كغيرها من الأيادي التي تسعى لاختراق البلدان واستضعافها، لا تطرق الأبواب بجنازير الحديد، بل تنفذ من المسامات المفتوحة: من خلافاتنا المؤجلة، من حساسياتنا السياسية غير المعالجة، من هشاشتنا المؤسساتية، ومن استعجالنا لتخوين بعضنا البعض.
وأخطر ما يمكن أن يفعله عدو مثل إسرائيل، ليس اختراق حدودنا أو الظهور في مناورات عسكرية، بل دفعنا – بذكاء بالغ – إلى مواجهة أنفسنا بدل مواجهته؛ إلى إشعال معارك جانبية تستنزف قوانا الأخلاقية والسياسية، وتصرف أنظارنا عن القضية المركزية.
الهزيمة الحقيقية لا تبدأ حين يدخل العدو إلى الأرض، بل حين يدخل إلى الخطاب، وحين يُعاد تشكيل الاصطفافات الوطنية على أساس منطق “مع أو ضد”، لا على أساس مصلحة الوطن العليا، والتي لا يمكن أن تتناقض مع الاصطفاف مع الحق والعدالة.
لهذا، فإن أول ما يجب أن نتحصّن به هو وحدتنا الداخلية، وقدرتنا على تدبير الاختلاف بعقلانية ومسؤولية، لأنّ الصراع مع الاحتلال لا يدار فقط على الأرض الفلسطينية، بل في كل ساحة تحاول إسرائيل تحويلها إلى ساحة انقسام.