story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

لقاء الملك وأمير المؤمنين!

ص ص

سيكون لتاريخ 09 فبراير 2025 ما قبله وما بعده، ليس لأنه كان يوم أحد ينتهي عنده أسبوع ليسلّم المشعل لآخر، بل لأنه لقاء فريدا وغير مسبوق احتضنه مقرّ المجلس العلمي بالرباط، وشهد حوارا يكاد يكون الأول من نوعه على الإطلاق، في التاريخ المعاصر للمغرب، لأنه جمع عيّنة من رجال ونساء الدولة والقائمين على مؤسساتها، ليحاوروا بعضهم.

في قاعة تنبعث منها المهابة والعراقة بفضل أيدي صنّاع تقليديين بصموا جدرانها وسقفها بصنعة بديعة، ورغم أن اللقاء اتخذ شكل ندوة يتناوب المحاضرون على منصتها أمام جمهور جرى انتقاؤه بعناية ودقة كبيرين، إلا أن المشهد اتخذ شكلا هندسيا مختلفا في حقيقة الأمر، حيث كان علماء الدولة ومؤسساتها “الوضعية”، يجلسون متقابلين، وجها لوجه.

وفيما التزم العلماء الصمت في هذا اللقاء الذي يحتمل أن يكون مجرّد حلقة أولى، تناوب رجال ونساء الدولة على تناول الكلمة، وفي منزلة وسطى بين الطرفين، جلس الرجل الذي يمثّل الجسر الرابط بينهما: وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، والذي أدار اللقاء بمهارة الفقيه والمثقّف الموسوعي، يعطي الكلمة لممثل المؤسسة الأمنية، بوبكر سبيك، بآية “فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، ويودّع الرئيسة الأولى للمجلس الأعلى للحسابات، زينب العدوي، بالإشارة إلى أهمية مراقبة النفس ومحاسبتها، بما في ذلك مراقبة المجلس لنفسه.

باختصار، يمكنني القول إنني رأيت يوم أمس الأحد في تلك القاعة الجميلة، فصلين من الدستور، يجلسان إلى بعضهما البعض، للمرة الأولى ربّما، في محاولة لتجسير الهوّة بينهما وتنسيق أفعالهما:

الفصل 41 الذي يعتبر الملك، “أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية”، والفصل 42 الذي يصف الملك ب”رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها…”.

لقد جلس الفصلان إلى بعضهما البعض، بعدما كادا يصطدمان بمناسبة النقاش الذي دار في العامين الماضيين حول مراجعة مدوّنة الأسرة، وتبيّن عمق الخلاف بين مؤسسة العلماء وباقي مؤسسات وهيئات الدولة، وتطلّب الأمر “تحكيما” ملكيا تجسّد في إعادة عرض التوصيات التي خلصت إليها الهيئة المكلّفة بإعدادها، وكان العلماء من بين مكوّناتها، على الهيئة العليا للإفتاء.

ورغم هذا المسار توّج بمقترحات جرى الإعلان عنها مؤخرا، إلا أن الندوة “الصحافية” التي خصّصت لها تنفيذا للتعليمات الملكية، أبانت استمرار الخلاف بين وزيري الأوقاف والعدل…

صحيح أن الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى، قد أطّرت هذا اللقاء بالنقاش الذي أثارته خطة “تسديد التبليغ”، والجدل حول توحيد خطبة الجمعة؛ وصحيح أيضا أن حنكة ومهارة الفقهاء التي حفّت هذا اللقاء، قد اهتدت إلى عنوان يجعله “تواصليا” بين مجلس العلماء و”خبراء في التنمية”؛ فإن النتيجة في النهاية كانت واضحة: رجال ونساء مؤسسات الدولة قاموا بخطوة كبيرة نحو المجال الذي ظل يعتبر حكرا على العلماء، والذي تبيّن تدريجيا أنه لا يمنحهم سلطات حصرية بقدر ما يحاصرهم ويبعدهم عن هموم وملفات ورهانات الدولة والمجتمع.

دعوني أخرج عن الموضوعية التي سعيت إليها منذ بداية هذه الفقرات، وأقول إن اللقاء وبصرف النظر عن مضمونه أو خلفياته أو سياقه، مبادرة خلاّقة وإيجابية، بل واستثنائية وتستحق كل الثناء والتشجيع، كي لا تكون الأخيرة.

لقد رأينا هذا الأحد 09 فبراير 2025 دولة مغربية مختلفة عمّا يراد إقناعنا به في السنين الأخيرة. رأينا دولة عاقلة، رصينة، برجال ونساء يعرفون كيف يتركون لغة الخشب خارج أبواب القاعة، وينتجون مداخلات غاية في العمق والتركيب والتعقيد الذي يرقى إلى خطورة التحديات المطروحة على المغرب.

لقد حضر “المخزن” بكل وجوهه (تقريبا) في ضيافة علماء المملكة.

رأينا المخزن السياسي الذي يخترق كل تمظهرات السلطة والتدبير، وإن كان لابد لنا من تجسيده فدعونا نقول إنه كان حاضرا في شخص مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة؛ وحضر المخزن الاقتصادي في شخص وزير الميزانية فوزي لقجع، وحضر المخزن الأمني في شخص الناطق باسم المؤسسة الأمنية بوبكر سبيك؛ وحضر المخزن الديني في شخص الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى محمد يسف وكاتبه العام سعيد شبار ووزير الأوقاف أحمد التوفيق؛ وحضر المخزن القضائي في شخص محمد عبد النبوي رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ وحضر مخزن الحكامة وحقوق الانسان في شخص كل من رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان أمينة بوعياش ورئيسة المجلس الأعلى للحسابات زينب العدوي، وحضر المخزن العابر للحكومات في شخص رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني ووزير الصحة السابق خالد آيت الطالب ووزيرة التضامن السابقة عواطف حيار؛ وحضر المخزن الايكولوجي في شخص وزير التجهيز والماء نزار بركة، وحضر المخزن المفكّر في شخص مدير معهد الدراسات الافريقية بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات ببنجرير، الفيلسوف علي بنمخلوف، كما حضر حتى المخزن الإعلامي، في شخص فيصل العرايشي، وإن لم يكن من بين المتحدّثين في اللقاء…

لقد أبان اللقاء عن احتفاظ الدولة بعقلها، وكذّب أنباء جنونها وضياع صوابها. لقد غابت كل الوجوه التي أريد لها أن تعتلي المشهد في السنوات الأخيرة كي تخبرنا أننا دخلنا عصر الخفة والنزوقية، وغابت كل مظاهر الميوعة واختلاط الحابل بالنابل وسيطرة الطارئين على الشأن العام.

حتى الحضور الصحافي تم تأطيره بشكل غيّب عدسات الصحافة وميكروفوناتها، وهذا مؤسف دون شك، لكنّه وفّر على الأقل فرصة لنقاش يركّز على الأفكار، ويناقش الآراء، ويحول دون لقطات المشاهد المجتزأة من سياقها.

لقد كان هناك توثيق سمعي بصري لأشغال اللقاء على أعلى مستوى، ورجائي أن يقرّر القائمون عليه، بعد مراجعته والتأكد، حسب تقديري، من خلوّه مما يمكن أن يسبّب تحوير النقاش أو تشويهه، نشره للعموم، لأن المغاربة يستحقون الاطلاع على وجه آخر لدولتهم، يسوده الاتزان والطابع المباشر في التناول مع العمق والدقة.

نستحق جميعا أن نرى مسؤولي الدولة يعترفون بالاختلالات، ويقرّون بخطورة التهديدات، ويطرحون الحلول والمقترحات. نستحقّ أن نتابع نقاشا بدا فيه مسؤولو الدولة كما لو تلقوا إشارة موحدة بتجاوز عقدة البعد الديني في الخطاب الرسمي. فالإسلام جزء من كينونة المغاربة، ولا يمكن وصم كل من يستحضره بخدمة أجندة الإسلاميين السياسية.

هذا بالضبط ما يحوّل علماء الدولة إلى كيان أشبه بالكهنوت، ويعمّق الفجوة بين المجتمع والسلطة، ويفتح الباب أمام تسلّل أجندات التضليل وخلط الأوراق.

لقد أسهب الفيلسوف علي بنمخلوف في وصف الصلة القوية بين الدين والمصالح الدنيوية، وأخبر الحضور في بداية اللقاء أن الصلاة هي واحدة من “الرياضات الروحانية” التي طالما كانت من طرق رفع حُجب الأنانية، وبالتالي تقليص النوازع الشريرة؛

ووضّح بوبكر سبيك كيف يساهم الدين في التقليل من الجرائم والاعتداءات، مستدلا في ذلك بأرقام إحصائية حول الظاهرة الإجرامية، تكشف تراجعها خلال شهر رمضان وداخل أماكن العبادة وفي محيطها؛

وتحدّث فوزي لقجع عن أهمية البعد الديني في تدبير المال العام؛
وأثارت زينب العدوي خشوع الحضور باستشهاداتها من القرآن والسنة في مجال محاربة الفساد المالي؛

واعتبرت أمينة بوعياش أن مقاصد الدين لا تتعارض في عمقها مع الأساس الأخلاقي للمنظومة الكونية لحقوق الإنسان؛
وذكّر خالد آيت الطالب كيف جعل الإسلام حفظ النفس أحد المقاصد الشرعية الخمسة، إلى جانب حفظ الدين، العقل، المال، والعرض…

وفي واحدة من أقوى لحظات هذا اللقاء الفريد، حاز رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، محمد عبد النبوي، اهتمام القاعة طيلة دقائق محاضرته المطولة، حين استعمل قصة افتراضية لجارتين تشاجرتا لسبب بسيط يتعلق بأمور الجوار، مثل خلاف بسيط بين أطفال، أو بسبب إحداث الضجيج الضار بسكينة الجيران، وتبادلتا السباب والشتائم على مرأى ومسمع من جيرانهما.

هذا الخلاف البسيط الذي يمكن أن يجد حله العادل عن طريق تطبيق النص القانوني الملائم، والذي هو في الغالب غرامة بسيطة تُفرض على الطرف الذي صدر عنه السب والشتم للآخر؛ قد يتحوّل إلى ملف معقّد أمام المحكمة.

فقد تدعى السيدة الأولى أن جارتها ضربتها بمشاركة بعض أبنائها فأحدثوا لها أضرارا بدنية، وتدلي بشهادة طبية تؤكد وجود عجز بدني معين؛

فترد السيدة الأخرى أنها هي التي تعرضت للعنف من طرف جارتها وأختها وزوجها، وأنهم أحدثوا لها أضرارا بدنية أشد، تثبتها كذلك شهادة طبية؛

وتدعي كل واحدة من السيدتين أنها هي المعتدى عليها وأنها لم ترد على الاعتداء؛
وتفيد الشهادتان الطبيتان وجود أضرار على جسميهما؛

ويسأل الباحثون عن الشهود الذين حضروا الواقعة، فيرفض الجيران الإدلاء بشهادتهم ويصرون على القول إنَّهم لم يحضروا الواقعة، وذلك لتلافي دخولهم في خلاف مع الجارتين المتشاجرتين؛

فتجتهد الجارتان في البحث عن شهود آخرين. وقد تجد إحداهما شخصا أو أكثر مستعد للإدلاء بشهادة زور، وقد يكون أحد المارة أو حارس الحي الذي يدعي أنه عاين الاعتداء على السيدة التي يشهد لفائدتها من طرف الأشخاص الذين اتهمتهم، ويُستدعى الشاهد إلى المحكمة فيُقسم اليمين على أنه شاهد ذلك، وهو لم يشهد شيئا…

في مثل هذه الحالة، يتساءل عبد النبوي، ماذا سيكون حكم القاضي ولديه ادعاء باعتداء، وشهادة طبية تثبت الاعتداء وشاهد يؤكد صدوره من المشتكى بهم؟!

ثم يعود الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية فيجيب: لا شك أن تطبيق القانون قد يؤدي إلى صدور حكم على هؤلاء المعتدين بالعقوبات المقررة في القانون، وقد تكون عقوبة سالبة للحرية.

يجزم عبد النبوي أن القاضي يتحمل مسؤولية المساهمين في العدالة… ويؤكد أن المحكوم عليهم سيغتاضون من هذا الحكم الذي صدر خلافا للحقيقة التي وقعت أمام أعينهم؛

وأن الجيران الذين حضروا الواقعة ورفضوا الإدلاء بشهادتهم سيعلقون على الحكم ويصفونه “بالجائر”، ويبدون انزعاجهم من سير العدالة؛

كما أن المحكوم لفائدتها وعائلتها وشاهد الزور الذي شهد لفائدتها، قد يغتبطون للحكم ويعدونه انتصاراً لهم على خصومهم؛
وأما الطبيب الذي حرر الشهادة الطبية ففي الغالب أنه لا يتابع مفعولها على الطرف المظلوم.

وحده القاضي الذي يمثل النظام القضائي يتحمل وزر مساهمة هؤلاء جميعا في صدور هذا الحكم. ولا أحد سيكترث لخطورة الأمر على النظام العام وعلى استقرار المعاملات؛ ولا أحد سينتبه إلى كون العدالة منتوج المجتمع وليست منتوج القاضي وحده؛ ولا أحد سيربط الحكم “الظالم” بالجهات التي ساهمت في صنعه.

“فما هي الأسباب إذن؟” يتساءل عبد النبوي، ليخلص إلى استحضار مقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان: “إن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالإيمان”، والتي اعتبرها دليلا قويا على أن المبادئ الدينية والأخلاقية عموما تحتاج إلى من يطبقها، ويرتب عليها الأحكام الشرعية أو القانونية.

“فتدخل السلطة يجب أن يظل حاضرا، ليتمم ما لم يضبطهُ الإيمان والعقيدة والأخلاق. ولكن تدخل الحاكم يكون دائما مشروطا بالشرعية. أي أن تدخل القاضي مقيد بنصوص القانون الذي يفترض التقاضي بحسن نية، ويعتبر أن المدعي لا يتقاضى إلا من أجل أفعال حقيقية وواقعية… وبالتالي دور الأخلاق والعقيدة في إقامة العدل…”.

يخلص عبد النبوي في النهاية، كما تتقاطع جل المداخلات في كون السلطان يحتاج إلى الإيمان مثلما يحتاج الإيمان إلى السلطان.

أي أن الفصلين 41 و42 من الدستور ينبغي أن يتكاملا لا أن يتنافسا. ولا يمكن للمشتغلين إلى جانب الملك على رأس مؤسسات وهيئات الدولة أن يحوّلوا الرداء الملكي إلى حبل يشدّه كل منهم نحو اتجاهه الخاص.

هذا حوار المؤسسات ورجالات ونساء الدولة مع بعضهم البعض، كما فهمته على الأقل. وهو حوار متمتّع بكامل الشرعية، وفيه كل المصلحة، لأن فصول الدستور وما يتفرّع عنها من مؤسسات وسلطات يجب أن تتكامل لتحقيق الصالح العام؛

لكن ما يهمّني أكثر باعتباري مواطن يتابع من موقع المجتمع لا موقع الدولة، هو أن بإمكاننا أن نكون أفضل بكثير مما هو كائن.

الدولة ما زالت تعرف كيف تميّز بين المصلحة العامة والنوازع الفردية، والتشرذم والتيه والعشوائية التي تسود المشهد حاليا ليست حتمية ولا أقصى ما نستطيع.

الإيمان الذي نحتاجه جميعا ولا توجد أية مشكلة في تأطيره بخطاب ومبادئ ومُثل الدين، هو الإيمان بأننا سواسية، ومصيرنا واحد، وقدرنا أن يشدّ بعضنا عضد بعض…

ولكل هذا أدوات، اسمها الديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وسموّ القانون، واحترام الإرادة الجماعية المعبّر عنها بكل حرية…

تقبّل الله من الجميع.