لا.. لم نسلّم فلسطينيا لإسرائيل!
أخطر مرحلة على الإطلاق في بناء المواقف، هي جمع المعطيات التي على أساسها يُقام المنطق وتؤسس الاستنتاجات. شخصيا عندما تابعت خبر تسليم المغرب مواطنا من أصول فلسطينية للسلطات الإسرائيلية لأنه “نفّذ عملية تفجير”، كنت عازما بدوري على تفجير شحنة كبيرة من الغضب والاستنكار، خاصة أن الخطوة جاءت متزامنة مع قرار آخر للقضاء المغربي، يقضي بعدم تسليم مواطن مصري لسلطات بلاده، وهو المعارض عبد الباسط الإمام، لاعتبارات قانونية بت فيها القضاء.
لكنني وبعد عملية تمحيص وتدقيق طويلة، استمعت فيها لرواية مصادر مغربية مسؤولة، اكتشفت حجم الضرر الذي يسبّبه عدم تدقيق المعلومات قبل تداولها، لأنني لم أعثر على فلسطيني في القصة، ولا وجدت أثرا للمصيبة التي صوّرتها عناوين وفقرات الأخبار المتداولة، والتي تجعلنا في موقع من يمسك بالمقاوم الفلسطيني الذي يحارب من أجل تحرير أرضه، ويكبّله ثم يسلّمه لآلة الفتك الإسرائيلية.
لا شيء من كل هذا في قصة سليم خليبات. وهذا الأخير، شخصيا وعبر أقاربه ودفاعه، كان أكثر المطالبين إصرارا على ترحيله من المغرب إلى إسرائيل، وهو يعتبر الخطوة بمثابة خلاص من ظروف اعتقال لم يكن يطيقها، وخطوة أولى في سبيل استرجاع حريته الكاملة، معوّلا في ذلك على إثبات ما يقول إنه براءته أمام القضاء الإسرائيلي.
يمكنك، سواء كمغربي أو كإنسان، أن تكون ضد أي شكل من أشكال التنسيق والتعاون بين المغرب وإسرائيل. بل عليك من منطلق الفطرة الإنسانية أن تحرص على فرض مقاطعة شاملة على كيان الاحتلال حتى تساهم في حمله على كف آذاه عن الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين…
لكنك وأنت تنشد المشاركة في فعل إنساني نبيل، لا ينبغي لك أن تنساق أو تتواطأ أو تتغافل عن ظلم آخر يصيب المغرب هذه الأيام على يد خصومه الذين يتحدّثون عن “مخزن” يلقي بفلسطيني استنجد ب”أمير المؤمنين” و “رئيس لجنة القدس”، بين أنياب مفترسيه الإسرائيليين.
هذا غير صحيح، أو قل غير دقيق في الأدنى. وإذا كانت عملية التسليم في حدّ ذاتها سبب للاستنكار والشجب، لأنها تمهّد لتطبيع أكبر في العلاقات المغربية الإسرائيلية، فإن المعني بالأمر لم يشهر في أي مرحلة من مراحل هذه القضية أصوله الفلسطينية ولا قدّم نفسه كمقاوم، ولا الفعل الذي يلاحق من أجل كان مندرجا ضمن أفعال المقاومة الفلسطينية.
وعندما طال اعتقاله في المغرب وتردّدت سلطاتنا كثيرا في تسليمه لغياب اتفاقية بهذا الشأن مع دولته، وتجنّبا لخطوة غير ملائمة لسياق الإبادة الإسرائيلية لغزة، كان المعتقل نفسه يبعث التهديدات بإمكانية دخوله في إضراب عن الطعام ورفع شكاوى ضد المغرب أمام جهات دولية…
فهل علينا أن نتجاهل كل هذا فقط لأننا نبحث عن فرصة للضغط وإحراج سلطات بلادنا بشأن علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل؟
دعونا نستمع إلى قصة ما وقع، لعلها تكفينا عناء الجواب:
قام سليم خليبات في نونبر 2021، وهو مواطن إسرائيلي الجنسية، من أصول فلسطينية، يقيم رفقة أسرته في قرية “بسمات طبّاع”، بالمشاركة في عملية تفجير عبوة في مدخل بناية تأوي إدارة إسرائيلية مكلفة بالسلامة الصحية، وذلك في مدينة الناصر الفلسطينية المحتلة.
تسبّب التفجير في أضرار مادية للبناية، بحكم التوقيت الذي جرى تنفيذه فيه، وذلك عبر التحكم في العبوة المتفجرة عن بعد، واستنفر ذلك الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية.
شكّت هذه الأخيرة في البداية في وجود خلفية “إرهابية” في لغة الاحتلال، أي علاقة التفجير بالمقاومة الفلسطينية، كما استحضرت احتمال علاقة التفجير بتهديدات كان مسؤولو الإدارة الصحية قد تلقوها ارتباطا بقرارهم شمل الأطفال القاصرين باللقاح المضاد لوباء كورونا.
وبعد إلقاء القبض على اثنين من المتورطين في العملية والاستماع إليهم، تبيّن أن الأمر بعيد عن الاحتمالين السابقين، أي أنه لا يرتبط لا بالفعل الفلسطيني المقاوم الذي يقوم به جزء من “عرب إسرائيل”، ولا بملف لقاحات كورونا، بل هو حادث مرتبط بنزاع بين أطراف صناعية وتجارية تنتج مواد غذائية، ومسؤولي الإدارة الصحية، مع شبهات ابتزاز ورشوة… ولم يكن المنفذون سوى أداة تنفيذ قدّمت خدماتها بمقابل مادي في الغالب.
تمكّن سليم خليبات من الفرار عبر سفره إلى دبي في الإمارات العربية المتحدة، ومنها إلى تركيا ثم وصولا إلى المغرب. وبعد شهور قضاها رفقة أقارب له تقول مصادر مغربية إنهم يتوفرون على مشاريع تجارية في المغرب، أوقفته السلطات المغربية، في يناير 2023، وفقا لما يرجّح أنه مذكرة بحث دولية يحتمل أنها ملزمة للمغرب وفقا للقواعد المعمول بها في هذا المجال.
هنا سيصبح المغرب في وضع أشبه بالورطة، لعدم وجود اتفاقية ثنائية تسمح بتبادل تسليم المطلوبين مع إسرائيل، بينما عمدت هذه الأخيرة، حسب ما يستنتج من سلوكها المعتاد، إلى انتهاز الفرصة لحمل المغرب على التورّط في خطوة تنسيقية غير مسبوقة لدولة الاحتلال مع دولة عربية، حيث قامت بمراسلة الحكومة المغربية مطالبة إياها بتسليم خليبات، وهو ما ظلّ المغرب يماطل في تنفيذه كل هذه المدة.
المؤشر على هذا “الخبث” المعتاد في الكيان الإسرائيلي، هو اللغة التي استعملتها الشرطة الإسرائيلية في الإعلان عن وصول سليم خليبات قادما من المغرب، حيث تحوّلت المؤسسة الأمنية الاسرائيلية إلى كائن سياسي يحتفي عبر تغريدة في حسابها الرسمي في منصة “إيكس”، بعملية هي “الأولى من نوعها لشرطة إسرائيل”.
بل إن دفاع المعتقل المرحّل نفسه لم يتردد في تصريحاته للصحافة الإسرائيلية، في الترحيب بالخطوة مع توجيه النقد من جديد للسلطات المغربية التي تأخرت، في نظره، في الاستجابة لطلب خليبات بالترحيل نحو إسرائيل والخروج من ظروف الاعتقال غير الإنسانية في رأيه، هناك في سجن “العرجات” قرب مدينة سلا.
أرأيتم كيف أننا، ونون الجماعة هنا مقصودة لأن كل ما تفعله الدولة هو مسؤولية جماعية إلا في حالة الدول التي تبطش بكل من خالفها، لم نسلّم “فلسطينيا” بله أن يكون “مقاوما”، لسلطات الاحتلال الإسرائيلي؟