story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

لا تلطخوا حايك فكيك !

ص ص

بعدما نطق القضاء بأحكام سالبة للحرية في حق نشطاء مدنيين من بين قادة الحراك المدني الذي تعرفه مدينة فكيك منذ شهور، يكون هذا الشكل الاحتجاجي المشروع والأصيل قد دخل منعطفا جديدا يخرجه من خانة التفاعلات المدنية الطبيعية في مجتمع حي، إلى مربع تخيم عليه أشباح الانزياح بسلوك السلطة من واجب التأمين والتنظيم والانصات، إلى نزوع الضبط والسيطرة.
فقد أصدرت المحكمة الابتدائية لفكيك ببوعرفة، أمس الإثنين 19 فبراير 2024، حكما بالحبس النافذ 3 أشهر، وغرامة قدرها 1000 درهم، في حق أحد أبرز وجوه الحراك، عضو التنسيقية المحلية للترافع على قضايا مدينة فكيك ابراهيمي محمد، إضافة إلى إدانة الناشطة حليمة زايد بالحبس موقوف التنفيذ 6 أشهر وغرامة مالية قدرها 2000 درهم.
من حق الباشا أو الوزير أو الغفير اللجوء إلى القضاء وطلب الانصاف حين يحدث ما يعتبرون أنه مس بحقوقهم أو تهديد لشخصهم، لكن هذه القافلة الجديدة من المعتقلين والملاحقين بسبب شكايات من ممثلي السلطة، من الباشا إلى الوزير، لا تحمل على الاطمئنان وتوقظ كوابيس المقاربات القمعية التي عشناها في حراكات شعبية أخرى كما كان الحال في الحسيمة وجرادة.
لمن لا يعرف ماذا يجري في فكيك، القصة باختصار أن الساكنة المحلية تحتج منذ شهور ضد قرار إلحاق تدبير مياه واحاتهم بصلاحيات الشركة الجهوية متعددة الخدمات التي تم إحداثها على صعيد جهة الشرق، ويرون في ذلك خوصصة وتسليعا للماء.
صحيح أن هناك في طيات هذا الخطاب بصمة لإيديولوجيات يسارية على الخصوص، وهو أمر لا ينبغي أن يكون مطية للشيطنة والتخوين كما تفعل السلطة عادة، بل علينا جميعا أن نشكر هذه التنظيمات السياسية والحقوقية اليسارية التي تلتحم بالسكان وتؤطرهم وتحمل مطالبهم وتِسمع أصواتهم.
ما تعيشه فكيك حاليا من حراك وتململ شعبيين ينبغي أن يكون موضوع تأمل وقراءة عميقين، مع تجنب أي انزلاق نحو القمع أو المقاربات الأمنية التي تضر أكثر مما تنفع. وإلي جانب الأشكال الاحتجاجية المبتكرة التي أبدعها أبناء وبنات المنطقة، مع كل الرسائل “الثقيلة” التي تحملها كما كان الحال مع مسيرة النساء المرتديات للحايك، تقدم لنا فكيك حاليا نموذجا مصغرا ومكثفا لما يمكن أن تولده التهديدات الاستراتيجية المحيطة بالمغرب.
أول تهديد استراتيجي هو جارتنا الجزائر. لهذه الأخيرة دور بشكل أو بآخر في المشاكل الاجتماعية التي يعرفها هذا الركن القصي من مناطقنا الشرقية. لا أقصد هنا منطق التوجيه والتوظيف وشراء الذمم الذي يفهمه البعض حين نقول إن للجزائر دخل في مشكلة ما من مشاكلنا الاجتماعية، بل لأن جارتنا الشرقية تحركت قبل أكثر من سنتين، لتسحب من سكان وفلاحي واحات فكيك المغربية، أراض ظلوا يستغلونها طيلة عقود، بدعوى أنها تقع داخل التراب الجزائري وفقا لاتفاقية ترسيم الحدود الموقعة مع المغرب.
هذا نموذج بسيط ومصغر لما يمكن أن ينجم عن حرب شاملة بين بلدين جارين مثل المغرب والجزائر، يجدر بمن ينفخون في جمر العداوة والكراهية أن يعتبروا به ويفهموا أن أول من سيدفع ثمن أي انغماس في المواجهة الشاملة سيكون سكان المناطق الحدودية في الجانبين.
الجزائر حرمت مواطنين مغاربة من مصدر رزق كان يخفف وطأة الفقر السائد في المنطقة، ولا شك أن للمغرب أوراق كثيرة يمكنه أن يؤذي المواطنين الجزائريين بها، لكن ولحسن الحظ أن الملك الراحل الحسن الثاني خلف رؤية حكيمة مفادها أن رسم الحدود بين البلدين ينبغي أن يتم بهدف تجاوزها لا الوقوف عندها.
هناك مسؤولية واضحة تتحملها السلطات المغربية في ما وقع لضحايا اقتطاع واحات منطقة “العرجة” من مستغليها المغاربة وإلحاقها بالتراب الجزائري. الدولة مسؤولة هناك سواء على الوضع السياسي وطريقة ترسيم الحدود نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، مثلما هي مسؤولة عن مصير من كانت أقواتهم مرتبطة بأرض “باتت ما صبحت”.
أما التهديد الاستراتيجي الثاني الذي ينبغي لنا قراءة تداعياته في حراك فكيك الحالي، فهو شح المياه واستنزاف الفرش المائية وتحول مناطق كاملة إلى أرض مهجورة لغياب مصدر الحياة الأول: الماء.
ما تقوم به الدولة حاليا من جهود كبيرة لمنع كارثة العطش من الوقوع كان ينبغي أن يتم منذ سنوات طويلة، وتراثنا الثقافي يحمل مقولة “الوقاية خير من العلاج”، أي أن الحفاظ على الثروة المائية، خاصة منها الجوفية، خير من الاضطرار لتعبئة القوات الأمنية والمحاكم وإصدار العقوبات السجنية.
أما ثالث التهديدات الاستراتيجية التي ينبغي لنا أخذ العبرة من انعكاساتها الواضحة في فكيك وما حولها، فهو هذا الاختلال الواضح في توزيع ثمار النمو وخلق الثروات.
بماذا سنبرر اليوم لنساء ورجال وأطفال فكيك تخصيص مليارات الدولارات لمد خطوط القطارات فائقة السرعة وبناء الطرق السيارة للماء وضخ ميزانيات الاستثمار في محور “المغرب النافع” بينما مغاربة هناك “فوق فكيك” لا يجدون “لقمة وجغمة”.
ما يجري أكبر من حق رجل سلطة يستدعي أن نقتص له من رمز محلي بإصدار عقوبات حبسية أو غرامات، تماما كما هو الحال في الرباط وأكادير، حيث الأمر أكبر من إساءات لوزراء مبجلين ينبغي القصاص منها بالسجن والتنكيل.
ما نعيشه يا سادة هو سؤال كبير عن مستقبل عيشنا المشترك فوق هذه الأرض. هو تهديدات استراتيجية تكبر في وجهنا، من الداخل والخارج، فلا تخطئوا الموعد ولا تفسدوا لوحة الغضب بارتداء الحايك فتلطخوه ببقع لن يغفرها التاريخ.