كيف تحولت رواندا إلى نموذج للتسويق السياحي عن طريق الرياضة؟

في السنوات الأخيرة، برزت رواندا كواحدة من الدول الإفريقية التي تبنّت نهجًا غير تقليدي في تسويق نفسها على الساحة العالمية، ليس فقط من خلال حملات دعائية كلاسيكية أو الترويج عبر المؤتمرات والمعارض، بل من خلال مد جسور التعاون مع أكثر المنصات تأثيرًا وشعبية في العالم: كرة القدم.
فقد أطلقت رواندا مبادرة تسويقية جريئة وغير مسبوقة، تمثلت في شراكات استراتيجية مع أندية كرة القدم الكبرى، مثل نادي أرسنال الإنجليزي، وباريس سان جيرمان الفرنسي، حيث ظهرت عبارة “Visit Rwanda” على أكمام قمصان اللاعبين ولوحات الإعلانات في الملاعب، وأصبحت جزءًا من الهوية البصرية لتلك الأندية خلال المباريات التي يتابعها مئات الملايين حول العالم.
هذه الخطوة لم تكن عشوائية، بل جاءت ضمن خطة تسويق وطنية شاملة تهدف إلى إعادة تشكيل صورة رواندا على المستوى العالمي، بعيدًا عن ماضيها المأساوي المرتبط بالإبادة الجماعية عام 1994، وتسليط الضوء على حاضرها الواعد كدولة آمنة، ومتقدمة في البنية التحتية والخدمات السياحية.
ورغم بعض الجدل الذي أثارته الاستثمارات الضخمة في هذا المجال، فإن النتائج الأولية أظهرت ارتفاعًا ملحوظًا في عدد السياح، واهتمامًا إعلاميًا غير مسبوق بالدولة الإفريقية الصغيرة.
تأتي هذه الاستراتيجية في سياق أوسع تسعى فيه رواندا إلى توظيف “القوة الناعمة” لتعزيز مكانتها الاقتصادية والسياسية، وتحقيق أهداف رؤية 2050، التي تطمح لجعل رواندا مركزًا استثماريًا وسياحيًا في قلب القارة السمراء.
وبينما يرى البعض في هذه التحركات نوعًا من المغامرة المحسوبة، يعتبرها آخرون نموذجًا ملهمًا للدول النامية في كيفية استخدام أدوات العصر الحديث – وعلى رأسها الرياضة – كجسر نحو العالم.
التعافي من الحرب
عقب الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994، والتي راح ضحيتها ما يقرب من 800 ألف شخص، معظمهم من أقلية التوتسي، وجزء من الهوتو المعتدلين، كانت البلاد في حالة انهيار تام سياسيًا، اجتماعيًا، واقتصاديًا. إلا أنها تمكنت، بقيادة الجبهة الوطنية الرواندية برئاسة بول كاغامي، من الشروع في عملية إعادة بناء شاملة، بدأت أولًا بإعادة الأمن والاستقرار، ثم إطلاق مشروع مصالحة وطنية طموح
تم إنشاء محاكم “غاشاشا” التقليدية التي جمعت بين العدالة والمسامحة، حيث أُتيح للضحايا والجناة التحدث والمواجهة في بيئة مجتمعية تهدف إلى تضميد الجراح.
كما تم تفكيك الهياكل التي غذّت الانقسام العرقي، واعتمدت الحكومة سياسة “الهوية الوطنية الموحدة” بدلًا من التصنيفات الإثنية، لتعزيز الشعور بالانتماء الجمعي.
استثمرت رواندا بشكل كبير في التعليم، والصحة، والبنية التحتية، وأطلقت إصلاحات اقتصادية صارمة، مما ساعد على خفض معدلات الفقر، وجذب الاستثمارات، وتطوير بيئة مستقرة آمنة. هذه التحولات لم تكن سهلة، بل جاءت نتيجة إرادة سياسية قوية، ومجتمع محلي أبدى قدرة نادرة على التعافي.
البداية مع أرسنال
في ماي 2018، أطلقت رواندا أولى قفزاتها الكبيرة على المسرح الرياضي العالمي بإبرام شراكة مع نادي أرسنال الإنجليزي، أحد أكبر الأندية في الدوري الإنجليزي الممتاز. بموجب الاتفاق، ظهرت عبارة “Visit Rwanda” على أكمام قمصان الفريق الأول، في صفقة بلغت قيمتها نحو 30 مليون جنيه إسترليني على مدى ثلاث سنوات.
ولم تكن الصفقة مجرد شعار، بل شملت أيضًا تعاونًا في إنتاج محتوى ترويجي يعرض طبيعة رواندا، وحياتها البرية، وثقافتها الغنية.
وفي عام 2019، أعلنت رواندا أن نحو 51% من جماهير أرسنال أصبحوا على دراية بفرص السفر إليها، في مؤشر واضح على قوة النفوذ الذي تمنحه الشراكات الرياضية في تشكيل الرأي العام وجذب الانتباه السياحي.
إطلالة من برج إيفل
لم تكتف رواندا بإنجلترا، ففي ديسمبر 2019 أبرمت عقد شراكة جديدًا مع نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، أحد أكثرالأندية شعبية في أوروبا.
تضمنت الصفقة ظهور شعار “Visit Rwanda” على قمصان فريق السيدات، ومعدات التدريب للفريق الأول، إضافة إلى حملات ترويجية لمنتجات رواندية مثل الشاي والقهوة والمنتجات الحرفية.
الشراكة، التي تم تمديدها حتى عام 2025، ركزت أيضًا على البُعد الثقافي، حيث تم تنظيم فعاليات فنية مشتركة، ومعارض للتصوير، ومعسكرات تدريبية في رواندا بإشراف نجوم النادي.
صفقة مع البايرن
في خطوة وصفها المحللون بأنها انتقال إلى “المرحلة الثانية” من الاستراتيجية، أعلنت رواندا في غشت 2023 عن شراكة جديدة مع نادي بايرن ميونيخ الألماني، تمتد حتى سنة 2028.
وتضمنت الصفقة إنشاء أكاديمية رياضية في كيغالي، مخصصة لتدريب الناشئين وتطوير مهاراتهم، إلى جانب الترويج السياحي عبر لوحات الإعلانات الرقمية في ملعب أليانز أرينا.
تميزت هذه الشراكة بالتركيز على تنمية الموارد البشرية الرياضية في رواندا، وربط الجذب السياحي بتنمية المجتمعات المحلية، وهو ما عكس تحولًا نوعيًا في فكر كيغالي من مجرد الترويج، إلى بناء إرث رياضي وسياحي طويل الأمد.
أتلتيكو مدريد.. الباب الإسباني
في أبريل 2025، أعلنت رواندا عن أحدث شراكاتها في هذا الملف الطموح، بانضمامها إلى قائمة رعاة نادي أتلتيكو مدريد الإسباني، ثالث أقطاب الكرة الإسبانية.
ومن المقرر أن يظهر شعار “Visit Rwanda” على ملابس التدريب، كما ستشارك رواندا في الفعاليات الرسمية للنادي، وستُعرض محتويات ترويجية عنها على الشاشات في ملعب “واندا متروبوليتانو”، فضلًا عن الحملات الرقمية الموجهة إلى جمهور النادي الواسع في أمريكا اللاتينية وأوروبا.
العائدات الاقتصادية والسياحية
لم تكن هذه التحركات مجرد واجهات إعلامية، بل أثمرت عن نتائج ملموسة على الأرض. ففي عام 2022، استقبلت رواندا أكثر من مليون سائح، وبلغت عائداتها السياحية نحو 445 مليون دولار.
كما شهدت زيادة ملحوظة في الاستثمارات في قطاع السياحة، بما في ذلك افتتاح فنادق عالمية، وتحسينات كبيرة في البنية التحتية، وعلى رأسها مطار بوجيسيرا الدولي الجديد.
ومن اللافت أن رواندا، التي تروّج لنفسها كوجهة سياحية مستدامة، استثمرت أيضًا في حماية البيئة والمناطق الطبيعية، مثل حديقة “فولكانو” التي تُعد موطنًا للغوريلا الجبلية النادرة، لتجمع بين الجذب السياحي وحماية الموارد الطبيعية.
أصوات معارضة
رغم النجاحات الاقتصادية والتسويقية، لم تخلُ الخطة الرواندية من انتقادات. فقد أعربت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية عن استيائها من هذه الشراكات، متهمة كيغالي باستغلال الرياضة لتلميع صورتها الدولية رغم اتهاماتها بدعم جماعات مسلحة في شرق الكونغو.
وفي هذا السياق، طالبت بعض الأحزاب والناشطين الأندية الأوروبية بإنهاء علاقاتها برواندا، وهو ما لم يستجب له أي من هذه الأندية حتى الآن.
كما طرح بعض المراقبين تساؤلات حول مدى جدوى إنفاق ملايين الدولارات على الرعاية الرياضية في بلد لا يزال يواجه الكثير من مظاهر الفقر وغياب التنمية.
دبلوماسية الرياضة
ما بين النجاح التجاري والجدل السياسي، تبقى رواندا نموذجا مبهرا على المستوى الإفريقي في عالم التسويق السياحي عن طريق الرياضة.
فقد نجحت في تحويل كرة القدم وأنديتها العملاقة إلى منصة دعائية وسياحية واقتصادية، تقدم من خلالها سردية جديدة عن أفريقيا: سردية الحداثة، الاستقرار، والطموح.
ربما لا تزال التجربة الرواندية موضع جدل، لكنها أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن الرياضة، حين تُدار برؤية استراتيجية، لا يمكن أن ينحصر دورها فقط في الترفيه وإلهاء الشعوب، بل يمكن أن تكون وسيلة لدعم المشاريع التنموية الكبرى المرتبطة بالسياحة والاستثمار وبصناعة الصور الجذابة عن البلدان والمناطق ذات الفرص الاقتصادية الواعدة.