كيف استخدمت الحركة الصهيونية كرة القدم لسرقة الوطن الفلسطيني؟
منذ نهاية القرن التاسع عشر استخدمت الحركة الصهيونية، الرياضة وسيلة من أجل تحقيق أطماعها السياسية والتوسعية، ولعبت أنديتها في أوروبا وفلسطين دورًا مهمًا في صهينة الشبيبة اليهودية وإعدادها من أجل حمل السلاح والسعي من أجل اغتصاب أرض فلسطين.
وكان للرياضة باعتبارها عنصرا ثقافيا وشكلا من أشكال الوعي الاجتماعي، تفسيرها في العقل الصهيوني, فهي وسيلة من أجل إعادة بناء الحسّ القومي من خلال خلق (رياضة يهودية) تقوم بتحويل المشاعر والمفاهيم الدينية إلى قومية صهيونية، وسعت أيضًا إلى إبراز أن التفوق اليهودي لا يقوم على الذهني والعلمي فقط، بل وعلى الرياضي أيضًا.
وكان المفكرون الصهاينة ينظرون إلى الرياضة كوسيلة من أجل بعث حياة جديدة بدنيًا، وأيضا كوسيلة من أجل بناء الوطن القومي واستعادة اللغة والأدب والتاريخ. وبنظرهم فإن هدف إقامة دولة إسرائيل لا يتحقق إلا إذا سبقه إعداد بدني وروحي ومعنوي للأجيال التي كان عليها تحقيق هذا الهدف.
وفي هذا الإطار توجه المهاجرون اليهود الأوائل إلى فلسطين، نحو تأسيس فرق لكرة القدم كانت تلعب بينها في دوريات صغيرة، وكان هدفهم التالي وضع قدم “رياضي” يساعد رموز الحركة الصهيونية العالمية على سرقة الوطن الفلسطيني وإقامة كيان محتل مكانه.
الفيفا واغتصاب فلسطين
في عام 1928، تأسس الاتحاد “الفلسطيني” لكرة القدم، وانضم إلى الفيفا في العام التالي مباشرة، لكن المفارقة أن ذلك الاتحاد لم يكن فلسطينيا ولا عربيا، لكنه اتحاد أسسه المهاجرون اليهود وكان لايضم في عضويته سوى ممثلين عن فرق كرة القدم اليهودية.
ولم يكن قانونيا أن ينضم الاتحاد الجديد للفيفا وهو يُمثِّل اليهود فقط في دولة أغلبيتها المطلقة من العرب، ومن ثم اضطر الاتحاد “الفلسطيني” المزعوم أن يُشرك العرب رمزيا، لكنه سرعان ما أبعدهم بعد تأسيسه.
وتكشف وثائق تلك الفترة أن الفلسطينيين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام سرقة الصهاينة لمنتخب بلادهم، فقد أسسوا الاتحاد الرياضي الفلسطيني (العربي) عام 1931 وأعادوا تأسيسه عام 1944، لكن المشكلة التي واجهتهم هي انحياز الفيفا الصارخ للاتحاد الذي سرق الهوية الفلسطينية، معتبرة أنه هو الممثل الوحيد لأندية كرة القدم في فلسطين.
في النهاية، بات فريق كرة القدم “الفلسطيني” ممثلا من اليهود دون غيرهم، الذين لم تتجاوز نسبتهم آنذاك ثلث سكان البلاد، قبل أن يحولوا شعار ولغة الاتحاد إلى العبرية، ويجعلوا النشيد الوطني للمنتخب هو النشيد الصهيوني “هتكفاه”.
بيد أن الفيفا ظل معترفا بهذا الاتحاد اليهودي باعتباره ممثلا لفلسطين بحجة أنهم تقدموا قبل العرب بطلب الانضمام للفيفا، بل وباتت الفرق الفلسطينية غير قادرة على اللعب مع نظيراتها العربية بسبب عدم الاعتراف بها وعدم سماح الاتحاد الصهيوني لها بذلك.
وكان الفيفا في رسائله للاتحاد الصهيوني يؤكد سيادته وأنه ليس بإمكان الفرق الأجنبية أن تلعب ضد الأندية العربية في فلسطين دون إذن ذلك الاتحاد.
وعلى صعيد كأس العالم لكرة القدم، شارك المنتخب “الفلسطيني” اليهودي في تصفيات كأسَيْ العالم 1934 و1938، وقد لعب المنتخب المصري أمام منتخب فلسطين في تصفيات كأس عالم 1934 مباراتين، الأولى في العباسية وانتهت بسبعة أهداف لصالح المنتخب المصري، والثانية في ملعب “هبوعيل” بفلسطين، وهي المدينة التي أخذت بعد الاحتلال الرسمي اسم “تل أبيب”، وفاز المنتخب المصري حينها بأربعة أهداف مقابل هدف.
ورغم أن الفريق الذي واجهه المصريون تحت اسم منتخب فلسطين كان مُشكَّلا من اليهود، فإن الأمر مرّ بسهولة دون انتباه، فلم تعكس قصة سرقة الاتحاد اليهودي لاسم فلسطين حقيقة استعمارية فحسب، وإنما عكست أيضا استيعاب العرب البطيء لنِيَّات وطبيعة للتحركات الصهيونية في أحيان كثيرة.
تحرك فلسطيني متأخر
في مواجهة هذا الاختطاف الصهيوني المبكر لكرة القدم الفلسطينية، دشن الفلسطينيون جهود مقاومة رياضية متأخرة نسبيا، لكنها كانت مكثفة.
فبحلول عام 1945 كان هناك 25 ناديا منضما للاتحاد الفلسطيني الحقيقي ومقره في النادي الإسلامي بمدينة يافا، وارتفع هذا العدد ليصبح 60 ناديا بحلول عام 1947 رغم التعسف السياسي والاعتقالات والتضييق الذي مارسته الحركة الصهيونية ضد الأندية الفلسطينية في تلك الفترة قبل النكبة.
كما حاول الاتحاد عبر وساطة مصرية أن يُقنع الفيفا بإعطائه الاعتراف أو على الأقل التدخل لفرض تمثيل مناسب للعرب في الاتحاد الذي هيمن عليه اليهود. وقد حاول سكرتير الاتحاد العربي “عبد الرحمن الهباب” السفر إلى لوكسمبورغ لمناقشة الأمر مع الفيفا، لكن رُفِض حضوره لأسباب يرجح أنها مرتبطة بضغوط من الاتحاد الصهيوني.
كانت الأهداف المعلنة للاتحاد الفلسطيني الحقيقي هي التنسيق بين الأندية العربية في فلسطين وإقامة علاقات رياضية بين فلسطين والدول العربية، لكن الاتحاد المعبِّر عن السكان الأصليين لم يجد اعترافا من الفيفا، ورغم ذلك استمر في تنظيم الفعاليات الرياضية مع الفرق العربية التي باتت أكثر وعيا بخطورة الصهيونية في فلسطين، وكانت مشاركاتها مهمة ولو رمزيا على المستوى التاريخي أمام محاولة الاتحاد الصهيوني تصوير فلسطين على أنها أرض خالية من العرب.
مقاومة بعد النكبة
بعد النكبة كان الكثير من الفاعلين الفلسطينيين واعين بأهمية النضال من أجل استعادة رموزهم المسروقة تماما كما وطنهم المسروق. واستمر الاتحاد الفلسطيني في العمل وحاول أن يطلب مرة أخرى عام 1951 الانضمام للفيفا، لكن الاتحاد الدولي المتواطئ مع الاتحاد الإسرائيلي رفض الطلب مجددا، هذه المرة تحت ذريعة أن الضفة الغربية ليس لها وضع قانوني دولي.
في الستينيات استمرت محاولات الفلسطينيين، وهذه المرة عن طريق قطاع غزة، حيث تكشف سجالاتهم مع الفيفا كمَّ العراقيل التي وضعتها المنظومة الدولية الكروية أمامهم، من وعود بالنظر في الأمر، إلى طلب إحصائيات مكثفة عن حجم ممارسة اللعبة في القطاع (وهو ما استجاب له الفلسطينيون).
وقد وجد الاتحاد الدولي نفسه في النهاية مضطرا لأن يقول صراحة إنه لا توجد دولة اسمها فلسطين ومن ثم لا يمكن قبول طلب الاتحاد الفلسطيني، بيد أن ذلك لم يمنع الاتحاد الفلسطيني من إجراء محاولتين أخريين عامي 1978 و1989، لكن الفيفا استمر في رفض قبول فلسطين تحت مسوغ أنه لا يوجد لفلسطين وضع قانوني دولي.
لم يتم قبول فلسطين عضوا في الاتحاد الدولي لكرة القدم إلا بعد اتفاقية أوسلو وعودة السلطة الفلسطينية إلى البلاد عام 1994، حيث أتى قبول العضوية الفلسطينية أخيرا عام 1998 مع الإقرار بمبدأ فصل الشتات.
ومنذ ذلك الحين تعيش كرة القدم الفلسطينية العديد من المآسي، ففي حرب عام 2012 قصفت إسرائيل ملعب غزة، ومبنى اللجنة الأولمبية الفلسطينية واتحاد كرة القدم وملعب اليرموك ونادي الشمس ونادي الشهداء ونادي أهلي النصيرات وملعب رفح، وغيرها من الأهداف الرياضية، هذا فضلا عن لاعبي كرة القدم الفلسطينيين الذين تعرَّضوا لإعاقات دائمة في مسيرات العودة نتيجة الرصاص الإسرائيلي، وهو استهداف يشي بوعي واضح لدى دولة الاحتلال بضرورة ضرب أي تألق رياضي فلسطيني لما لذلك من رمزية على عدة مستويات.
ثمن باهظ
ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة قبل أزيد من سنة، تكبدت الرياضة الفلسطينية بشكل عام خسائر باهظة على الصعيد البشري وعلى صعيد البنية التحتية.
وحسب تقديرات اللجنة الأولمبية الفلسطينية، فإن ما يقارب 400 رياضي فلسطيني استشهدوا في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة والضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى جانب تدمير المنشآت وتوقف النشاط الرياضي، كما أكد على ذلك رئيس اللجنة جبريل الرجوب، على هامش دورة الألعاب الأولمبية 2024 التي احتضنتها العاصمة الفرنسية باريس الصيف الماضي.
وتفيد معطيات نشرها الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، في يوليوز الماضي، بأن من بين الشهداء الذين ارتقوا في الحرب المتواصلة حاليا على القطاع، 240 شهيدا من لاعبي وإداريي كرة القدم، منهم 12 في الضفة الغربية، وأكثر من 33 من الحركة الكشفية ونحو 70 من الاتحادات الرياضية، في حين دمرت دولة الاحتلال الاسرائيلي 42 منشأة رياضية منها 7 في الضفة الغربية.